كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

وفي قوله: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} أيضًا دليل عَلَى أَنَّ هَذَا المكان الَّذِي يُلقَوْن منه لا يَكُون واسعًا، بل يُضَيَّقُ عليهم، وهذا قبل دخولها، فكيف إذا دخلوها، ويَحتمِل أنَّ نفس الأمكِنة الَّتِي هم فيها في نفس النار تكون ضيِّقةً إذا أُلقوا مكانًا منها ضيقًا، فتكون (مِنْ) هَذِهِ قريبةً من معنى (فيها)، فالمكان نفسه في النار يَكُون ضيِّقًا، يعني تضيَّق عليهم؛ لِأَنَّ كل وَاحِد منهم -والعياذ باللَّه- يَكُون في تابوتٍ كما جاء في الحديثِ؛ في تابوتٍ مغلَق عليه (¬١).
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ألا يُشكِل على هَذَا أنَّ بعضَ أجسادهم تُفَخَّم في النار؟
نقول: هو نفسه يُفخَّم، ولَكِن لا يَمنَع أن يُفخَّمَ وهو في مكانٍ ضيِّقٍ، ويمكن أن يَكُونَ تفخيمُه هَذَا من أسباب التضييقِ.
قَالَ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [{مُقَرَّنِينَ} مصفَّدين قد قُرِنَتْ أي جُمِعَتْ أيديهم إلى أعناقِهم في الأغلالِ، والتشديدُ للتكثيرِ]، التشديد في قوله: {مُقَرَّنِينَ} لِأَنَّ (مُقَرَّن) مأخوذٌ من (قَرَّنَ) أو من (قُرِّنَ)، قُرِّن فَهُوَ مقرَّن، وأصلها من (قَرَنَ) بالتخفيف: قَرَنْتُ هَذَا الرجل أَقْرِنَهُ فَهُوَ مقرون، لَكِنها أتتْ بالتشديد للتكثيرِ، أو للمبالَغة في هَذَا القَرْن، وأَنَّهُمْ يُقَرَّنون بشدة، فهم إذا {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}، قال المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [هلاكًا فيقالُ لهم {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}]، هَذَا في الحقيقة تصويرٌ بَيِّن لحالِ النارِ وأهلِها يوم القيامةِ، أَنَّهُمْ قبل أن يدخُلوها يَسمعون لها تغيُّظًا وزَفيرًا، وهذا بلا شكٍّ يَخلَع قلوبهم ويُرعِبهم، ثم إذا أُلقوا فيها لا يُلقَون على سبيل الكرامةِ، بل يُلقَون إلقاءً، ثم إنهم لا يلقون هكذا مطلَقين، ولكن مقرَّنين، يعني مجموعة أَيديهم إلى أعناقِهم،
---------------
(¬١) أخرجه ابن أبي شيبة فى المصنف (٧/ ٢١٠، رقم ٣٥٤١٤).

الصفحة 66