كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

ومن بلاغة القُرْآن أن القراءات يُستفاد منها إما التفسير وإما زيادة المعنى، فقراءة "تَشَّقَقُ" فيها زيادة المعنى، وعلى قراءة: "نُنْرِلُ المَلائكةَ" فيها تفسير؛ لِأَنَّ قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} مبني للمجهول، فالفاعل غير معلوم، وَأَمَّا قوله: "نُنْزِلُ المَلائكَةَ" فمبنيَّة للفاعل، فالفاعل فيها معلوم، وعلى هَذَا إذا سُئلت: مَنِ الَّذِي ينزل الملائكة؟ تقول: هو اللَّه، والدليل أمر مفهوم بالأذهانِ، ودليل آخر من لفظ الآية، القراءة الثَّانية: {الْمَلَائِكَةُ}.
قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} كل سماء أكْثَر ملائكة من السَّمَاء الَّتِي تحتها، كذلك أيضًا هَؤُلَاءِ الملائكة الَّذِينَ يُحيطون بالعالم، كل دائرة أكْثَر عددًا من الدائرة الَّتِي قبلَها، وإنما يُنزَّلُونَ بَيانًا لعظمةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وإحاطة بالخَلْق، وحينئذٍ يَصدُق قول اللَّه تَعَالَى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: ٣٣]؛ لأَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ معَ إحاطةِ الملائكة بهم أن يهربوا من أهوالِ هَذَا اليومِ.
وقوله: {تَنْزِيلًا} مصدر نُزِّل، وهو كما أسلفنا يدل على أَنَّهُمْ ينزلون شيئًا فشيئًا، لا ينزلون جملةً، فتنزل ملائكة السَّمَاء الدُّنْيا أولًا، ثم الثَّانية، ثم الثالثة، إلى السابعة، وأشرنا إلى الآية الَّتِي في سورة الرَّحمن دفعًا لقولِ بعضِ النَّاسِ الَّذِينَ يفسِّرونها بهَذه الأقمار الصناعيَّة أو المراكب الفضائيَّة الَّتِي صعِد النَّاس بها إلى الفضاء، ويزعمون أن قولَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} إلا بعِلمٍ، وأن هَذَا العلم أَوصَلَهم إلى النفوذِ، وهذا لا شكَّ تحريفٌ للقرآنِ، ولا حاجةَ إلى أن نَتَكَلَّف فنقول: كل ما يحدث فإن في القُرْآن له شاهد، لا حاجة إلى هَذَا التكلُّف؛ لِأَنَّ هَذِهِ الحوادث شواهدها حصولها، متى حَصَلَت فإننا نؤمنُ بها، سواء دلَّ عليها القُرْآنُ

الصفحة 80