كتاب تفسير العثيمين: الفرقان

عمَّا أراد اللَّه به، ويَقتضي أنْ يَتلاعَب النَّاس بالقُرْآن، ثم إنهم قد يَستدِلُّون بالآيات الكريمة على ما رأوْا من النظرياتِ، وتأتي بعد ذلك نظريات أخرى تُبطِلها، فيَكُون القُرْآن حينئذٍ باطلًا حسَب ما استدلَّ به الأوَّلون، ونحن -وللَّه الحمد- في غِنًى عن هَذَا الأمر، فهَذِهِ الأمور والحوادث الَّتِي تحدث من صنائع الإنْسَان أمرٌ لا حاجة إلى إقامةِ الدليلِ عليه من القُرْآنِ، لِأَنَّ واقعها يُثْبِتُها.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هم يريدون إثباتَ إعجازِ القُرْآنِ؟
فالجواب: إعجاز القُرْآنِ يَكفي أن نقولَ فيه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٨]، وَأَمَّا الحقائق إذا دل عليها القُرْآن فلا بأسَ، لكنْ كوننا نُحرِّف القُرْآن مِنْ أجْل أن نُخضِعَه للدلالة على هَذَا الأمر فلا، فمثلًا لو استدلَّ أحد على تطوُّر الجنين وخِلقته بالآية الكريمة وبالحديث الصحيح فهذا لا بأسَ، فالشَيْء الَّذِي يدلُّ عليه القُرْآنُ لا بأس به، لكِن شَيْء يحرَّف القُرْآنُ مِنْ أجْلِه فلا.
المهمُّ أن اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخلُق الشَيْء ولا نعلمه في وقتنا نحنُ، وهذا يَجري على كل هَذِهِ الحوادث، فقبل أن تقعَ لا يعلمها الإنْسَانُ، وبعد وُقُوعها يعلمها؛ لِأنَّهُ قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وهذا شَيْء معلوم {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٨]، يعني أشياء لا تعلمونها، وفعلًا خلق اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أشياء ما كانوا يعلمونها في عهد الرَّسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وسيخلق أشياءَ لا نعلمها نحن في وقتنا، ويخلق اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى آخِر الدَّهر شيئًا لا يعلمه مَن سبق، لكِن يعلمه مَن أَدْرَكَهُ؛ لِأَنَّ كونه يخلق معناه يُوجِد، والموجود لا بد أن يُعلم؛ فاللَّه يتحدث عن أمرٍ سيَكُونُ لنا {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فإذا كان يتحدث عن أمرٍ سيَكُون لنا فمعنى ذلك سنَعْلَمُه إذا خَلَقَه اللَّه جَلَّ وَعَلَا.

الصفحة 82