كتاب تفسير العثيمين: فاطر

يؤثِّرُ عليه ويَضُرُّه، كما أنَّه لا مانِعَ من أن يتناولَ ما تَشْتَهيهِ نَفْسُه وإن كان في بَعْضِ الحالات ضَرَرًا عليه.
وقد ذكر ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في (زادِ المعادِ) (¬١) أنَّ في طَلَبِ النَّفْسِ الشَّيْءَ أثرًا كبيرًا في انتفاءِ مَضَرَّتِه، وضرب لذلك مَثَلًا كما أظُنُّ (المَيْتَة خَبيثَة مُضِرَّة) فإذا اضْطُرَّ الإِنْسَانُ إليها واشْتَدَّتْ حاجَتُه وضَرُورَتُه صارَتِ النَّفْسُ تَقْبَلُها وتَسْتَسيغُها، ثم تَهْضِمُها فلا تَضُرُّها؛ لأن المَيْتَة لو كانت تَضُرُّ المُضْطَرَّ ضَرَرَ غَيْرِ المُضْطَرِّ، لكان حِلُّها له يَتَضَمَّنُ قَتْلَ نَفْسِه؛ ولذلك لو اضْطُرَّ إلى أكلٍ وليس عِنْدَه إلا سُمٌّ لم يَحِلَّ له أن يأكُلَ السُّمَّ.
وضرب مثلًا لذلك أيضًا بقِصَّةِ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ كان أَرْمَدَ؛ أي: تُؤْلِمُه عَيْنُه من رمدٍ كان بها، فَجِيءَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ، فأكَلَ منه النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وذهب صُهَيْبٌ لِيَأْكُلَ، فقال له النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إنَّكَ أَرْمَدُ"؛ ومَعْروفٌ أنَّ الذي في عَيْنِهِ رَمَدٌ لا يأكلُ التَّمْرَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ أَمْضُغُهُ من الجانِبِ الآخَرِ، فمثلًا إذا كان في عَيْنِه اليُمْنَى فيها رَمَدٌ يَمْضُغُه من الجانِبِ الأَيْسَرِ، فضَحِكَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وقال له: "كُل" (¬٢) لأن نَفْسَه الآن كانت تَطْلُبه طلَبًا قويًّا، وهذا الطَّلَبُ يُزيلُ الضَّرَر.
فالمُهِمُّ أنَّ الشَّيْء الذي لا يُسْتَساغُ لا يَنْبَغي للإِنْسَانِ أن يَتَناوَلَه ويُكْرِه نَفْسَه عليه؛ ولهذا قيل: (كُلْ ما يَشْتَهي بَطْنُك، ولا تَأْكُلْ ما يَشْتَهي فمُك)، وهل هذا يَصِحُّ أو لا يَصِحُّ؟
الجواب: يَصِحُّ؛ لأن بعضَ النَّاسِ يَتَلَذَّذُ بنوعٍ من الطَّعامِ لكن باطِنُه لا يَقْبَلُه،
---------------
(¬١) زاد المعاد (٤/ ٩٧).
(¬٢) أخرجه الإمام أحمد (٤/ ٦١)، وابن ماجه: كتاب الطب، باب الحمية، رقم (٣٤٤٣).

الصفحة 109