كتاب تفسير العثيمين: فاطر

من باردٍ شديدٍ على طول الزَّمَنِ إلى حارٍّ شديدٍ على طول الزَّمَنِ أيضًا، مَعْلومٌ أنَّ هذه الحَرارَةَ الشَّديدةَ تَقْتُلُ من الجراثيمِ الضَّارَّة ما لا يَعْلَمُ به إلا الله عَزَّ وَجَلَّ؛ ولهذا نَضْرِبُ مثلًا بسيطًا كُلُّنا نُشاهِدُه: البَعُوضُ إذا اشْتَدَّ الحَرُّ مات لم يَبْقَ له أَثَرٌ؛ ولهذا أَكْثَرُ ما يَكْثُر في الزَّمَن الذي بين الحَرِّ والبرودة الشِّتاء، كذلك شِدَّة البُرودَةِ تَقْتُلُ الجراثيمَ التي تعيش على الحَرارَةِ، ولا يَعْلَمُ بها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ؛ ومن ثَمَّ قال العُلَماء رَحِمَهُم اللهُ: إنَّ أكْثَرَ أَهْلِ الأَرْضِ أَمْراضًا هم الذين على خَطِّ الإسْتِواء وما قارَبَه؛ إذ ليس عندهم شتاءٌ يَقْتُلُ أو صيفٌ حارٌّ يقتل أيضًا، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ أيضًا.
إذن: إِيلاجُ اللَّيْلِ في النَّهَارِ فيه عِدَّةُ حِكَمٍ؛ ولهذا بَيَّنَهُ عَزَّ وَجَلَّ فقال: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}.
قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} الشَّمْسُ مَعْروفَةٌ، والقَمَرُ مَعْروفٌ، سَخَرَهُما؛ أي: ذلَّلَهُما لمصَالِحِ العبادِ؛ فإنَّ في الشَّمْسِ والقَمَرِ من المصَالِحِ العَظيمَةِ للعبادِ ما يَعْرِفُه أَهْلُ العِلْم رَحِمَهُم اللهُ بهذا الشَّأْنِ، وهذه الشَّمْسُ والقَمَرُ ما بيَّنَ الله لنا ثِقَلَهُما ولا حَجْمَهُما؛ لأنَّ ذلك ليس بالعِلْمِ النَّافِعِ الكثيرِ لنا، فالجَهْلُ به لا يَضُرُّ، والعِلْمُ به من فُضُولِ العِلْمِ، إن لم يَشْغَلْكَ عما هو أَهَمُّ منه فاشْتَغِلْ به، إنَّما بين المصَالِحِ التي تَتَرَتَّب على تَسخيرِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، فقال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَر} فبالشَّمْسِ يكونُ النَّهَارُ واللَّيْلُ، ويكون أيضًا نُضْجُ الثِّمارِ، وتكون الأَنْوارُ العَظيمَةُ، ما رَأْيُكم مثلًا ماذا يتوفَّر للعالَمِ من الطَّاقَةِ بعد خُرُوجِ الشَّمْسِ؟
الجواب: كثيرٌ لا يُحْصى؛ لأنَّها تُوَفِّرُ الكَهْرُباء، وتُوَفِّرُ أيضًا تَلْيينَ الأَشْياء التي تحتاجُ إلى تَلْيينٍ وحَرارَةٍ، ثم إنَّهم في الأَزْمِنَة الأَخيرَة صاروا يُنْتِجُون مِن حرارَةِ الشَّمْسِ طاقَةً كَبيرَةً عَظيمَةً، أمَّا القَمَرُ فَسُخِّر لنا أيضًا بما يحصل من نُورِه في اللَّيْلِ،

الصفحة 114