كتاب تفسير العثيمين: فاطر

فهذه جُمْلَةٌ خَبَرِيَّة قُدِّمَ فيها الخَبر للدَّلالَة على الحَصْرِ؛ يعني: له وَحْدَه المُلْكُ دون
غَيْره، المُلْك المُطْلَقُ الشَّامِل لله وَحْدَه، مِلْك الذَّواتِ والأَعْيان، ومِلْك التَّصَرُّفِ في
هذه الأَعيانِ، فهو المالِكُ لِكُلِّ مَخْلوقِ، وهو المُتَصَرِّفُ في كلِّ مَخْلوقٍ.
فإذا قُلْتَ: كيف يَصِحُّ الحَصْرُ مع أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَثْبَتَ المُلْكَ لِغَيْرِه فقال: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المُؤْمنون: ٦] وقال: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النُور: ٦١]، وقال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النُّور: ٣٣]، فأَثْبَتَ المُلْك لغيره وأنت تقول: إن هذه الجُمْلَة فيها حَصْرٌ؟
فالجواب من وَجْهَيْنِ:
الوَجْهُ الأَوَّلُ: أنَّ مِلْكَنا ليس مِلْكَا مُطْلَقًا، بل هو مِلْكٌ مُقَيَّدٌ بحَسَب الشَّريعَة، فأنا مثلًا مالِكٌ لهذه الحَقيبَة، لكِنْ لا أَمْلِكُ أن أُتْلِفَها؛ لأنَّه حرامٌ عليَّ أن أُتْلِفَها، مالِكٌ لهذا البَعيرِ مثلًا لكِنْ هل أَمْلِكُ أن أُعَذِّبَه؟ هل أَمْلِكُ أن أَجْرَحَه؟
الجوابُ: لا، لا أَمْلِكُ هذا إلا بإذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ؛ ولهذا لمَّا أَذِنَ الشَّرْعُ بِوَسْمِ البَعيرِ مع أَنَّه مُؤْذٍ لها ومُؤْلِم جاز، ولمَّا أَذِنَ بإشْعارِ الإِبِلِ والبَقَرِ في الهَدْيِ جازَ.
والإشْعارُ هو أن يُشَقَّ السَّنامُ بالسِّكينِ في الهَدْيِ حتَّى يَسيلَ الدَّمُ على الشَّعْر والجِلْد، والفائِدَةُ من هذا ليُعْرَفَ أنَّ هذه هَدْيٌ، ولهذا نَحْنُ نُشْعِرُ الإِبِلَ والبَقَرَ، ونُقَلِّدُ الإِبِلَ والبَقَرَ والغَنَمَ، فالغَنَمُ ليس فيها إشعارٌ، بل فيها تَقْليدٌ فقط، والتَّقْليدُ أَنَّنا نَضَعُ عليها قِلادَةً في العُنُق، نُعَلِّقُ فيها النِّعالَ القديمة المُتَقَطِّعَة، وآذانَ القِرَبِ (واحِدها قِرْبَة) يعني: قِطَع القِرَب لتُعَلَّقَ بها، نُعَلِّقُه على هذا البَعيرِ أو البَقَرَة أو الشَّاة ليُعْرَفَ أنَّها هَدْيٌ؛ لأنَّ النِّعالَ المُتَقَطِّعة وقِطَع القِرَبِ تَدُلُّ على الرَّثاثَةِ والفَقْر، إشارَةً إلى أنَّ هذه للفُقَراءِ، والقَصْدُ أنَّ مِلْكنا للشَّيْءِ مُقَيَّد.

الصفحة 121