كتاب تفسير العثيمين: فاطر

قال المُفَسِّر رَحِمَهُ اللهُ: [{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: يخافونَه وما رَأَوْه] أفادنا المُفَسِّر رَحِمَهُ اللهُ أنَّ قَوْله تعالى: {بِالْغَيْبِ} حالٌ من المفعول به؛ أي: يَخْشَوْن ربَّهم حال كَوْنِه غائبًا عنهم لم يَرَوْه، وهذا أَحَد الوَجْهَيْنِ في الآيَةِ.
الوجه الثاني: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} حالَ كَوْنِهم غائبينَ عن غَيْره فيكونُ الجارُّ والمَجْرورُ حالًا من الفاعِل؛ لأنَّ من النَّاسِ من يُظْهِرُ خَشْيَة الله أمام النَّاس، لَكِنَّه إذا غاب عن النَّاسِ لم يَخْشَ الله، هل يُمْدَح هذا على خَشْيَتِه؟
الجواب: لا؛ لأنَّه مُرَاءٍ، لكنْ من يَخْشَى ربَّه بالغَيْبِ هذا هو الذي يُمْدَح.
فإن قُلْتَ: هل يُمْكِن أن تُحْمَلَ الآيَةُ على المَعْنَيينِ، ويكون هؤلاء الذين مَدَحَهُم الله يَخْشَوْن الله؛ مع أنَّهم لم يَرَوْه يَخْشَون الله في حالِ الغَيْبَة عن النَّاس؟
فالجواب: نعم، وهذا من بَلاغَةِ القُرْآن أن يُعَبِّرَ بتعبيرٍ صَالِحٍ لمَعْنَيَيْنِ لا يتنافيانِ، فهؤلاء القوم يَخْشَوْنَ الله تعالى وهم لم يَرَوْه، ولَكِنَّهم يَخْشَوْنَه كأنَّهم يَرَوْنَه؛ لأنَّهم يَخْشَوْنه بالغيب والشَّهادَة، وقد قال النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الإحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" (¬١).
وَقَوْله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} لا ينافي أنَّه مُنْذِرٌ لجميع النَّاسِ، قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: ١١٩] وقال تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: ٢٣]، وما أشبه ذلك من الآياتِ الدَّالَّة على عموم ذلك؛ لأنَّ المُرادَ بالإِنْذارِ هنا الإنذارُ النَّافِع؛ أي: إنَّما يُؤَثِّرُ إنذارُك في الذين يَخْشَوْن ربَّهُم بالغَيْبِ، أمَّا من لا يَخْشَى الله بالغَيْبِ فإنَّه وإن أُنْذِرَ فإنَّه لا يَنْتَفِعُ بالإنذار.
---------------
(¬١) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، رقم (٥٠)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، رقم (٩)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الصفحة 148