كتاب تفسير العثيمين: فاطر

قَوْله تعالى: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} ومع ذلك كفروا {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} هذه الباء للمُصاحَبَة؛ يعني: جاؤوا مُصْطَحبينَ هذه الأَشْياءَ، ويُحْتَمَل أنَّها للتَّعْدِيَة، كما تقول: (أَتَيْتُ بِدِرْهَم، أتيت بِطَعامٍ، أَتَيْتُ بِشَرابٍ)، وما أشبه ذلك؛ يعني: أَتَوْا بالبَيِّنَة التي تُبَيِّنُ صِدْقَهُم، وتَفْسيرُ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللهُ للبَيِّناتِ بالمُعْجِزاتِ، هذا هو تعبيرُ كثيرٍ من المُتَأَخِّرينِ، ولكنَّ الصَّوابَ أن يقال: (بالآيات)، وأنَّ البَيِّناتِ هذه هي صِفَةٌ لمِوْصوفٍ مَحْذُوفٍ، تَقْديره: (بالآياتِ البَيِّناتِ)؛ أي: الظَّاهِرَة.
والآياتُ التي جاءت بها الرُّسُلُ حِسِّيَّة ومَعْنَوِيَّة، فمن الآياتِ الحِسِّيَّة: ما جاء به موسى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من العصا، واليد، وغير ذلك، ومن الآيات المَعْنَوِيَّة: ما جاء به من التَّوْراةِ، وكذلك عيسى وغيرهما من الرُّسُلِ، كلُّ رسول لم يأتِ إلا ببَيِّنَة.
وقد ثبت عن النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنَّه "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ" (¬١)، وإنَّما كان كذلك؛ لأنَّه ليس من الحِكْمَة ولا من الحُجَّة ولا من الرَّحْمَة أن يُرسَل رسولٌ إلى الخَلْق يَسْتَبيحُ دماءَ المُخالِفينَ له وأَمْوَالَهم ونِساءَهُم بدون بَيِّنَةٍ حتى لو فُرِضَ أنَّ أَحَدًا كَذَّبَه وهو لم يأتِ ببَيِّنَة لكانَ المكذِّبُ مَعْذورًا؛ لأنَّ البَيِّنَة على المُدَعِّي، فكان من حِكْمَةِ الله ورَحْمَتِه وإقامَةِ حُجَّته أن يجعل مع الرُّسُل آياتٍ تَشْهدُ بِصِدْق ما جاؤوا به.
وقد ذكر أَهْلُ العِلْم رَحِمَهُم اللهُ أنَّ الآياتِ التي جاء بها الرُّسُل - ولا سيَّما الآياتُ الحِسِّيَّةُ - تكون مناسِبةً لِأَبْرَزِ الأُمُور في عَصْرِهم، وضربوا لذلك مثلًا بأنَّ
---------------
(¬١) أخرجه البخاري: كتاب الإعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثت بجوامع الكلم، رقم (٧٢٧٤)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، رقم (١٥٢)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الصفحة 183