كتاب تفسير العثيمين: فاطر

إن نَظَرْنا إلى ظاهِر الفِعْلِ قلنا: إنَّ القائِلَ هو الله؛ لأنَّ الذي عَمَّرَهُم هو الله عَزَّ وَجَلَّ، ويُحْتَمَلُ أن يكون القائِلُ هو المَلائِكَةَ، ولكِنْ لما كانت المَلائِكَةُ تقولُ بِأَمْرِ الله صار كأنَّ القائِلَ هو الله، فالمَلائِكَة تقول لأنَّهم جُنودُ الله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} وأيًّا كان فالمقصودُ بهذا إقامَةُ الحُجَّةِ عليهم وتَوبيخُهُم وتَنْديمُهُم.
وَقَوْله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} هذا السِّيَاقُ يُوجَدُ كثيرًا في القُرْآن، فتَأْتِي هَمْزَةُ الإسْتِفْهامِ وبعدها حَرْفُ العَطْفِ، وقد اختلف المُعْربونَ في مثل هذا التركيبِ.
فقيل: إنَّ الهَمْزَةَ داخلةٌ على مُقَدَّرٍ يُسْتَفادُ من الكَلَامِ، وهذا المقدَّرُ عُطِفَتْ عليه الجُمْلَةُ التي بعد حَرْفِ العَطْفِ.
وقال بعضهم: بل إنَّ الهَمْزَةَ داخلةٌ على الجُمْلَةِ المَوْجودَةِ لا على شَيْءٍ مَحْذُوف، لَكِنَّها قُدِّمَتْ على حَرْفِ العَطْفِ؛ لأنَّ لها الصَّدارَةَ فيكون التَّقْديرُ في قَوْله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}: (وَأَلَمْ نُعَمِّرْكُم) وتكون الواوُ هنا عاطِفَةً على قَوْلهِم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} هذا من حيث الإِعْرابُ.
أما من حيث المَعْنى فكما أَشَرْنا أولًا إلى أنَّ المُرَادَ بذلك التَّوْبيخُ والتَّنْديم وإقامة الحُجَّة؛ يعني: قد عَمَّرْناكم تَعْميرًا واسِعًا وَوَقْتًا طويلًا يتذَكَّرُ فيه من تَذَكَّر؛ لأنَّ الرُّسُلَ جاءتهم وأَمْهَلَتْهم ودَعَتْهم، ولكن أبَوْا وأَصَرُّوا على كُفْرِهم.
وكان أوَّلَ من أُرْسِلَ مِنَ الرُّسُلِ نُوحٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فماذا يقول له قومه؟
قال تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: ٧] يَجْعلون أصابِعَهم في آذانِهِم لئلَّا يَسْمَعوا واسْتَغْشَوْا ثِيابَهُم لِئلَّا يَرَوْا، وهذا يدلُّ على شِدَّةِ كَراهَتِهِم لما يقول، لا يُحِبُّون أن

الصفحة 263