كتاب تفسير العثيمين: فاطر

يَسْمَعُوه ولا أن يَرَوْا نوحًا وهو يُلْقيه عَلَيْهم؛ ثم أَصَرُّوا؛ يعني: بَقُوا على ما هم عليه واسْتَمَرُّوا فيه واسْتَكْبَروا اسْتِكبارًا - يعني استكبارًا عَظيمًا - عن قَوْل الحَقِّ، هذا أوَّلُ الرُّسُلِ.
وآخِرُ الرُّسُل قالوا إنَّه ساحرٌ كذَّاب، وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: ٥] وآذَوُا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسَّلَامُ بالقَوْلِ والفِعْل، بل اسْتَباحوا أن يُقاتِلوه ورَضُوا أن يَبْذُلوا رِقابَهُم للسُّيوفِ معارَضَةً لِدَعْوَتِهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
فهؤلاء الذين تَبْلُغُ بهم هذه الحالُ بَعْدَ أن عُمِّروا ما يتذَكَّر فيه من تذَكَّر وجاءتهم الرُّسُل: هل يرجى منهم لو خَرَجوا من النَّارِ أن يعودوا إلى الحَقِّ؟ أبدًا؛ لأنَّ الأَمْرَ واحِدٌ.
لكن قد يقول قائِلٌ: إنَّه ليس الخَبَرُ كالمعايَنَةِ؛ فالنَّارُ التي تُوُعِّدَ بها أَدْرَكُوها عن طريقِ الخَبَرِ قبل أن يكونوا فيها، أمَّا لمَّا كانوا فيها فقد عَرَفوها عن طريق الحِسِّ والمُشاهَدَةِ؟
فالجواب: أنَّ خَبَرَ الرُّسُلِ المؤيَّدَةِ بالآياتِ الدالَّة على رِسالَتِهِم يُفيدُ العِلْم اليَقِينِيَّ؛ لأنَّ الرُّسُلَ ما جاءت تدعو النَّاسَ وتُنْذِرُهم وتُبَشِّرُهم إلا بآياتٍ يؤمِنُ على مِثْلِها البَشَرُ، وهؤلاء - والعياذ بالله - طَبيعَتُهُم التَّكذيب والإنكارُ، فلن يُؤْمنوا ولو خَرَجوا.
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} النَّذيرُ، يقول المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [الرَّسُول] والمُرَاد به الجِنْس؛ لأنَّ كُلَّ رسولٍ قد أنذر قومه وحَذَّرَهم من مَعْصِيَة الله، وبَشَّرَهم ورَغَّبَهم في طاعة الله، ولَكِنَّهم، والعياذ بالله، أصَرُّوا واسْتَكْبَروا فقد قامت عليهم الحُجَّة.

الصفحة 264