كتاب تفسير العثيمين: فاطر

يحين الأَمْرُ يَجِدُ من نفسه العَجْزَ، أو يقول: أنا أستطيع أن أقومَ ثُلُثَ اللَّيْلِ الآخِرِ كُلَّه، ولكن إذا جَدَّ الجِدُّ وجد نَفْسَه عاجزًا.
فالمُهِمُّ: أنَّه يَنْبَغي للإِنْسَانِ ألَّا يكونَ مُتَسَرِّعًا فيقيس حالَه في حالِ الرَّخاء على حاله بحالِ نُزولِ الأَمْرِ به؛ لأنَّ الإِنْسَانَ بَشَرٌ تَخْتَلِفُ حالُه بين سلامَتِهِ من الأَمْرِ وبين وقوعِ الأَمْرِ فيه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: دليلٌ على عُتُوِّ هؤلاء المُكَذِّبينَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كانوا قبل أن يُبْعَثَ إليهم يُقْسِمونَ أَغْلَظَ الأَيْمانِ بأنَّهم سيكونونَ أهدى من غَيْرِهم، ولكن لمَّا جاءهم الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما زادهم مَجيئُهُ إلا نُفورًا.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الإِشَارَةُ إلى أنَّه لا يَنْبَغي للإِنْسَانِ النَّذْرُ - أي أن يَنْذِرَ الطَّاعَة - لأنَّه قد لا يوفَّق في القيام بها، فهؤلاء أَقْسَموا ولما وُجِدَ مُوجِبُ الطَّاعَةِ لم يقوموا بالطَّاعَةِ.
وهذا نظيرُ قَوْله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النُّور: ٥٣] فهم أَقْسَموا بالله أنْ لو أَمَرَهم الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - لَخَرجوا فنهاهم الله بل أمَرَ نَبِيَّه أن يقول لهم لا تُقْسِموا.
ونظير ذلك قَوْله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التَّوْبَة: ٧٥ - ٧٦].
ولهذا جاء النَّهْي من النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن النَّذْر، وبيانُ أنَّه "لا يأتي بِخَيْرٍ" (¬١).
---------------
(¬١) أخرجه البخاري: كتاب القدر، باب إلقاء النذر العبد إلى القدر، رقم (٦٦٠٨)، ومسلم: كتاب النذر، باب النهي عن النذر، رقم (١٦٣٩)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

الصفحة 306