كتاب تفسير العثيمين: فاطر

التَّقْديرُ قد يكون سهلًا في بَعْضِ المواضِعِ، بمَعْنى أن بعض المواضِعِ قد يكون المَعْنى فيها ظاهِرًا ويُمْكِنك بِكُلِّ سهولَةٍ أن تُقَدِّرَ ذلك المَحْذُوفَ، لكن أحيانًا يَصْعُبُ عليك أن تُقَدِّرَ ذلك المَحْذُوفَ لاحتمالِ السِّيَاقِ لأَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَة؛ لهذا نقول: إنَّ القَوْلَ الآخَر أَقْرَبُ وأَسْهَلُ أن نَجْعَلَ الواوَ حَرْفَ عَطْفٍ والجُمْلَة هذه معطوفة على ما سبق، والأَصْلُ تَقديمُ ذلك الحرف العاطِفِ على الجُمْلَة، والتَّقْدير: وَأَلَمْ يسيروا.
وَقَوْله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} السَّيْرُ هنا هل هو سَيْرُ القُلوبِ أو سَيْرُ الأَقدامِ أو كِلاهُما؟
نقول: الأَوْلَى أن نقول إنَّه شامِلٌ فيكون سَيْرُ القلوب هو سَيْرُ الأَقْدامِ، أمَّا سَيْرُ القلوب فإنَّه بالنَّظَر في تاريخ الأُمَم السَّابِقَةِ وما جرى عليهم وما جرى لأَهْلِ الخَيْرِ العاملين بالقِسْط، فيسيرُ الإِنْسَانُ بِقَلْبِه في أرجاء العالَم وهو جالسٌ على كُرْسِيِّه لا يَتَحَرَّكُ.
وأمَّا السَّيْرُ بالأقدام فهو أن يتقَدَّمَ الإِنْسَانُ إلى هذه المواضِعِ ليَعْتَبِر، ومن ذلك قَوْلُ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "زُوروا القُبُورَ فَإنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ" (¬١) فإنَّ زيارَةَ القُبورِ سيرٌ بالأقدام، يذهب الرَّجُلُ إلى المَقْبَرة ويَقِفُ ويشاهد هذه القُبُورَ ويَعْتَبِرُ بهؤلاء القومِ الذين كانوا أشَدَّ منه قُوَّة وكانوا أكْثَرَ منه مالًا، ومع ذلك آلُوا إلى ما آلُوا إليه حتى يَعْرِفَ أنَّه سوف يَؤُولُ إلى ما آل إليه هؤلاء، طالَتِ المُدَّة أم قَصُرَت.
إذن: السَّيْرُ في الأَرْض يكون بالقَلْبِ وبالقَدِمِ، وأيُّهما أَنْفَعُ للمَرْءِ: السَّيرُ بالقَلْبِ أم السَّيْرُ بالقَدَمِ؟
---------------
(¬١) أخرجه مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه عَزَّ وَجَلَّ في زيارة قبر أمه، رقم (٩٧٧)، من حديث بريدة الأسلمي - رضي الله عنه -.

الصفحة 311