كتاب تفسير العثيمين: فاطر

عامًا يَدْعوهُم سرًّا وجَهْرًا، وبالتَّوْبيخِ وبالوعد، ومع ذلك ما آمَنَ معه إلا قليلٌ.
وَقَوْله تعالى: {رُسُلٌ} التَّنْكيرُ هنا للتَّكْثيرِ والتَّعْظيم؛ أي: رُسُلٌ كثيرةٌ ورُسُلٌ عَظيمَة أيضًا كُذِّبَت؛ كُذِّبَ نوحٌ، وكُذِّبَ إبراهيمُ، وكُذِّبَ مُوسى، وكُذِّب عيسى، وهؤلاء هم أولو العَزْمِ من الرُّسُل، وآخِرُ الرُّسُلِ كُذِّبوا، فتَكْذيبُكَ إِذَن ليس بِبِدْعٍ.
ويُرادُ بهذا تَسْلِيَة النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فإنَّ الإِنْسانَ إذا عَلِمَ أنَّ غَيْره أُصيبَ بِمِثْل مُصيبَتِه تسلَّى بذلك؛ لو أنَّ أَحَدًا أصيب بحادِثٍ، ثم رَأَيْنا الحوادِثَ فيها من انْكَسَرَتْ يَدُه، ومن انْكَسَرَتْ أُصْبُعُه، ومن انْكَسَرَ فَخِذُه، ومن انكسر صُلْبُه، فقام الذي انْكَسَرَتْ أُصْبُعُه يَصيحُ وَيتَضَجَّر، قلنا له: فلان انكسر صُلْبُه، فيَخِفُّ عليه الأَلَمُ وينساه؛ لأن تَسَلِّيَ النَّفْس بالغَيْرِ له أثرٌ عظيمٌ، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: ٣٩]، فاشْتِراكُكُم في العذاب لن يُخَفِّفَ عنكم كما هو الشَّأْن في حال النَّاسِ في الدُّنْيا، وقالت الخَنْساءُ تَرْثي أخاها صَخْرًا (¬١):
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي
قالتْ: (أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي) أقول: هذه مات أخوها، وهذه مات أخوها، وهذه مات أخوها، فأَنتِ وغيرُكِ سواءٌ.
قَوْله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} هنا الجارُّ والمَجْرورُ مُتَعَلِّق بـ {تُرْجَعُ} وقُدِّم لإفادَةِ الحَصْرِ؛ يعني: إلى الله لا غَيْرِهِ تُرْجَع الأُمُور، وقد يقال: إنَّه قُدِّمَ أيضًا لفائِدَةٍ
---------------
(¬١) ديوان الخنساء، ط. دار المعرفة (ص: ٧٢)، الكامل للمبرد (١/ ١٦).

الصفحة 40