كتاب الطرق الحكمية
عِمَامَةٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ: حَكَمْنَا لَهُ بِالْعِمَامَةِ الَّتِي بِيَدِ الْهَارِبِ قَطْعًا، وَلَا نَحْكُمُ بِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ الَّتِي قَدْ قَطَعْنَا وَجَزَمْنَا بِأَنَّهَا يَدٌ ظَالِمَةٌ غَاصِبَةٌ بِالْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ.
وَهَلْ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ إلَّا رُجُوعٌ إلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، الَّتِي عَلِمْنَا بِهَا ظَاهِرًا أَنَّهُ لَوْلَا صِدْقُ الْمُدَّعِي لَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَاهُ بِالْيَمِينِ؟ فَلَمَّا نَكَلَ عَنْهَا كَانَ نُكُولُهُ قَرِينَةً ظَاهِرَةً، دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ أَقْوَى مِنْ النُّكُولِ، وَالْحِسُّ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ تَعْطِيلُ شَهَادَتِهَا؟ وَمِنْ ذَلِكَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الزُّبَيْرَ أَنْ يُقَرِّرَ عَمَّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ بِالْعَذَابِ عَلَى إخْرَاجِ الْمَالِ الَّذِي غَيَّبَهُ، وَادَّعَى نَفَادَهُ فَقَالَ لَهُ: الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ» .
فَهَاتَانِ قَرِينَتَانِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ: كَثْرَةُ الْمَالِ، وَقِصَرُ الْمُدَّةِ الَّتِي يُنْفَقُ كُلُّهُ فِيهَا.
وَشَرْحُ ذَلِكَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَجْلَى يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْمَدِينَةِ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، غَيْرَ الْحَلَقَةِ وَالسِّلَاحِ، وَكَانَ لِابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ مَالٌ عَظِيمٌ - بَلَغَ مِسْكَ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَحُلِيٍّ - فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ - وَكَانَ بَعْضُهَا عَنْوَةً وَبَعْضُهَا صُلْحًا - فَفَتَحَ أَحَدَ جَانِبَيْهَا صُلْحًا. وَتَحَصَّنَ أَهْلُ الْجَانِبِ الْآخَرِ. فَحَصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ، وَأَرْسَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْزِلُ فَأُكَلِّمْك، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ فَنَزَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ. وَتَرْكِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَرْضِهَا بِذَرَارِيِّهِمْ، وَيُخَلُّونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَرْضٍ، وَعَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْكُرَاعِ وَالْحَلَقَةِ، إلَّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ، اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَلِكَ» .
قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ، فَغَلَبَ عَلَى الزَّرْعِ وَالْأَرْضِ وَالنَّخْلِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُجْلَوْا مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِيٌّ لِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلَى خَيْبَرَ، حِينَ أُجْلِيَتْ النَّضِيرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ النَّضِيرِ؟ قَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، قَالَ الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ
الصفحة 7
292