كتاب الطب النبوي لابن القيم

فَصْلٌ
وَأَمَّا طِبُّ الْأَبْدَانِ: فَإِنَّهُ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ قَدْ فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ نَاطِقَهُ وَبَهِيمَهُ، فَهَذَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مُعَالَجَةِ طَبِيبٍ، كَطِبِّ الْجُوعِ، وَالْعَطَشِ وَالْبَرْدِ، وَالتَّعَبِ بِأَضْدَادِهَا وَمَا يُزِيلُهَا.
وَالثَّانِي: مَا يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ، كَدَفْعِ الْأَمْرَاضِ الْمُتَشَابِهَةِ الْحَادِثَةِ فِي الْمِزَاجِ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ بِهَا عَنِ الِاعْتِدَالِ، إِمَّا إِلَى حَرَارَةٍ، أَوْ بُرُودَةٍ، أَوْ يُبُوسَةٍ، أَوْ رُطُوبَةٍ، أَوْ مَا يَتَرَكَّبُ مِنَ اثْنَيْنِ مِنْهَا، وَهِيَ نَوْعَانِ: إِمَّا مَادِّيَّةٌ، وَإِمَّا كَيْفِيَّةٌ، أَعْنِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِانْصِبَابِ مَادَّةٍ، أَوْ بِحُدُوثِ كَيْفِيَّةٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَمْرَاضَ الْكَيْفِيَّةِ تَكُونُ بَعْدَ زَوَالِ الْمَوَادِّ الَّتِي أَوْجَبَتْهَا، فَتَزُولُ مَوَادُّهَا، وَيَبْقَى أَثَرُهَا كَيْفِيَّةً فِي الْمِزَاجِ.
وَأَمْرَاضُ الْمَادَّةِ أَسْبَابُهَا مَعَهَا تَمُدُّهَا، وَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمَرَضِ مَعَهُ، فَالنَّظَرُ فِي السَّبَبِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي الْمَرَضِ ثَانِيًا، ثُمَّ فِي الدَّوَاءِ ثَالِثًا. أَوِ الْأَمْرَاضُ الْآلِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تُخْرِجُ الْعُضْوَ عَنْ هَيْئَتِهِ، إِمَّا فِي شَكْلٍ، أَوْ تَجْوِيفٍ، أَوْ مَجْرًى، أَوْ خُشُونَةٍ، أَوْ مَلَاسَةٍ، أَوْ عَدَدٍ، أَوْ عَظْمٍ، أَوْ وَضْعٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ إِذَا تَأَلَّفَتْ وَكَانَ مِنْهَا الْبَدَنُ سُمِّيَ تَأَلُّفُهَا اتِّصَالًا، وَالْخُرُوجُ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِيهِ يُسَمَّى تَفَرَّقَ الِاتِّصَالِ، أَوِ الْأَمْرَاضُ الْعَامَّةُ الَّتِي تَعُمُّ المتشابهة رالآلية.
وَالْأَمْرَاضُ الْمُتَشَابِهَةُ: هِيَ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْمِزَاجُ عَنِ الِاعْتِدَالِ، وَهَذَا الْخُرُوجُ يُسَمَّى مَرَضًا بَعْدَ أَنْ يَضُرَّ بِالْفِعْلِ إِضْرَارًا مَحْسُوسًا.
وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَضْرُبٍ: أَرْبَعَةٌ بَسِيطَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ مُرَكَّبَةٌ، فَالْبَسِيطَةُ: الْبَارِدُ، وَالْحَارُّ، وَالرَّطْبُ، وَالْيَابِسُ، وَالْمُرَكَّبَةُ الْحَارُّ الرَّطْبُ، وَالْحَارُّ الْيَابِسُ، وَالْبَارِدُ الرَّطْبُ، وَالْبَارِدُ الْيَابِسُ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِانْصِبَابِ مَادَّةٍ، أَوْ بِغَيْرِ انْصِبَابِ مَادَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَرَضُ بِالْفِعْلِ يُسَمَّى خُرُوجًا عَنِ الِاعْتِدَالِ صِحَّةً.
وَلِلْبَدَنِ ثَلَاثَةُ أحوال: حال طبيعية، وحار خَارِجَةٌ عَنِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَحَالٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْأُولَى: بِهَا يَكُونُ الْبَدَنُ صَحِيحًا، وَالثَّانِيَةُ: بِهَا يَكُونُ مَرِيضًا، وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ هِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، فَإِنَّ الضِّدَّ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى ضِدِّهِ إِلَّا بِمُتَوَسِّطٍ، وَسَبَبُ خُرُوجِ الْبَدَنِ عَنْ طَبِيعَتِهِ، إِمَّا مِنْ دَاخِلِهِ، لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْحَارِّ

الصفحة 8