كتاب الرسالة المحمدية

عيّن لهم مواقيت الصلاة، والصّوم، والحجّ، وأحكام هذه العبادات وسننها، وكيف يسألون ربّهم فيها ليستنزلوا رحمته ويستغفروا ذنوبهم، وكيف يتضرعون إليه ويخشعون له ويناجونه في سرّهم ويذكرونه في علانيتهم، وكيف يتوبون إليه معترفين بزلاتهم، منيبين إليه منها متوخين تزكية نفوسهم، وتنزيه أرواحهم، وتطهير قلوبهم، والتقرب إلى ربهم بكلّ ما ينالون به مرضاته، لتكون روح الدّين قائمة وحقيقته ملموسة.
والقسم الثاني من الأعمال: المعاملات، وتستطيع أن تسمّيها قوانين المملكة، وأصول المعاشرة، وهذا الضرب من الأعمال مفصّل تفصيلا وافيا في رسالة موسى عليه السلام، وأقرت الرسالة المحمدية أكثره لكنّها خفّفت من شدة أحكامه، ووسّعت ما ضاق منها، فجعلتها صالحة لتكون قوانين عالمية. وكانت دائرة العمل بها محصورة ببني إسرائيل، فلما أضاف إليها الإسلام ما نقص منها؛ أصبحت جديرة بأن يدعو العالم كله لأنه يتخذها قوانين إنسانية عالمية. ونحن لا نرى ذكرا لقوانين المملكة في الزبور، ولا في الإنجيل، وقد نجد في الإنجيل بعض الأحكام في الطلاق، أما الأمور الآخرى فلا أثر لها فيه، مع أنّ الدّين العالميّ الأبديّ الذي يتكفّل بحاجات المجتمع البشري يتحتّم أن يشمل قوانين الدولة، وأصول المعاشرة، ولما كان دين عيسى المسيح عليه السلام خاليا من هذه القوانين؛ فقد اضطرت الأمم المسيحية إلى استعارة هذه القوانين من الأمم الوثنية كالإغريق والرّوم، بينما الرسالة المحمدية اكتملت فيها هذه القوانين؛ لأنها نظرت إلى هذا الضرب من حاجات الأمم نظرا ثاقبا حكيما، فاستوعبته من جميع نواحيه مستقصية جهاته كلّها، فلم تترك ناحية منه إلا وقد أتمّتها، فسنّت قوانين كلية أقامتها على أصول جامعة استنبط منها الأئمة المجتهدون والأصوليون من فقهاء العلماء أحكاما لحاجات جدّت، ومقتضيات حدثت، ولا يزالون يستنبطون منها، واستمرّ هذا العمل الفقهي في هذه القوانين ألف سنة من أعمار الدول الإسلامية الراقية، ذات المدنيات الزّاهرة، والحضارات الزّاهية، وعمل بذلك المسلمون في مختلف بقاع الأرض وأقطارها، ولا يعرف العالم كلّه إلى الآن قانونا أعدل

الصفحة 185