كتاب الرسالة المحمدية

منشأ الخير والشرّ حسن استعمال الأمور أو سوء استعمالها:
والحق أنه ليس في الدّنيا شيء يصحّ أن يطلق عليه اسم الشر، فالنار لا شك أنّها تحرق، ولكنّ الإحراق في نفسه لا يعدّ خيرا ولا يسمى شرا، فإن أوقدتها لتنضج عليها غذاءك، أو لتقتبس منها قبسا تصطلي به من البرد فإنّ عملك هذا هو الذي يعدّ إحسانا، ويطلق عليه اسم الخير. وإذا أضرمت النار لتحرق مأوى يأوي إليه فقير بائس لم يرتكب ذنبا فإنّ عملك هذا هو الذي يعد سيئة وشرّا، بينما النار نفسها ليست بنفسها خيرا محضا لا شرّ فيه، أو شرا محضا لا خير فيه، وأنت الذي جعلتها بعملك خيرا أو شرا.
والسيف القاطع لا يعدّ خيرا، ولا شرّا، بل أنت الذي تتّخذ منه ذريعة للخير أو الشر. والظلام لا يعدّ شرا لكنك إن تسترت به في جوف الليل لترتكب فيه السوء، فالشرّ هو عملك لا الظلام، وإن تواريت فيه لتعمل صالحا أو أويت فيه إلى الراحة، والدّعة؛ فهو خير.
وقد خلق الله الأرض والسماء، وجعل بينهما أشياء: الريح، والسحاب، والماء، والنار، والطين، وخلق منهنّ أشياء، وخصّ كلّ شيء بخصيصة، وبثّ فيه قوة تناسبه، ثم خلق الإنسان، ووهبه الحكمة البالغة، والبصيرة النافذة، والآراء السديدة، فنظر هذا المخلوق في الكون، وتأمّل حسن تقويمه، وعجيب تنسيقه، وبديع نظامه، فملكه الإعجاب به، وملأ نفسه الاستغراب منه، فلم يتمالك أن انطلق لسانه قائلا فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] ثم نادى في خشوع وخضوع لرب العالمين إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] ، كما فعل إبراهيم خليل الله، وبجانب هذه الطائفة من البشر طوائف أخرى لم يكن لهم من بليغ الحكمة، وسداد الرأي، وثاقب الفكر ما ينقذهم من جحود الله والكفر به، فالتبست عليهم حقائق العالم، واشتبهت لهم خواص الأشياء والقوى المودعة فيها، فجعلوا المادة علّة العالم، وسبب خلقه، وقالوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] .

الصفحة 207