كتاب الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية ومعه النفحات السلفية بشرح الأحاديث القدسية

"جميعًا"، وإنما قال ذلك قبل أمره إيانا بالاستغفار؛ لئلا يقنط أحد من رحمة الله لعظم ذنبٍ ارتكبه. انتهى.
وقوله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري ... " إلخ. الضرُّ -يفتح أوله، ويضم-: الضرر، ضد النفع، وهو منصوب بنزع الخافض، أو لن تصلوا إلى ضرري، كذا في بعض شروح الأربعين؛ قال الأزهري: كل ما كان سوء حال وفقر، وشدة في بدن؛ فهو ضر بالضم؛ وما كان ضد النفع؛ فهو بفتحها. انتهى.
ولما كانت الجبلة والعادة في الخلق أن يوصل بعضهم إلى بعض نفعًا، أو ضرًا، وكان هذا مألوفًا لهم فيما بينهم، فإذا رأيت إحسانًا من أحد، أو إساءة من أحد إليك فتجتهد لأن توصل إليه نظير صنعه من خير، أو شر، أو منفعة، أو مضرة فالناس وراء المنافع أيًا كان وكل بحسبه، أراد المولى جل ذكره أن يبين لخلقه وعبيده: أنه سبحانه لا يصله شيء من طاعتكم، فينتفع به، ولا يصله شيء من معصيتكم فتضرونه به؛ بل أعمالكم الطيبة الصالحة تثابون عليها يوم القيامة، وتنتفعون بها في الآخرة، وكذلك أعمالكم الخبيثة، فإنكم تجازون عليها يوم الموقف الأعظم، وتعذبون بسبب ما ارتكبتموه من الأمور المخلة، فليجتهد كل إنسان: ويدخر لنفسه من الأعمال الصالحات ما يعود نفعه عليه في وقت شدة حاجته إليه، وليجهد نفسه على منعها من ارتكاب ما يخل بالآداب الإنسانية، والقواعد الشرعية لئلا يكون وزر ذلك عليه في يوم لا شفيع يشفع إلا بإذن الله سبحانه وتعالى. قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.
وقد ورد في ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدً ا} [النساء: 131] أي: لم يزل كذلك. وقال حاكيًا عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] وقال: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176] وقال: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144] وقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] والمعنى والله أعلم: أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه، ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه. ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه، وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أعيا، وأيس منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عيناه فنام، واستيقظ، فإذا

الصفحة 59