كتاب مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر

وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ أَنَّ الْوِتْرَ تَطَوُّعٌ ولَيْسَ بِفَرْضٍ، وَدَلِيلٌ رَابِعٌ: هُوَ أَنَّ الْوِتْرَ يَعْمَلُ بِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَمَا خَفِيَ وُجُوبُهُ عَلَى الْعَامَّةِ، كَمَا لَمْ يَخْفَ وُجُوبُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَنَقَلُوا عِلْمَ ذَلِكَ، كَمَا نَقَلُوا عِلْمَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ أَنَّهَا مَفْرُوضَاتٌ، وَقَدْ تَوَارَثُوا عِلْمَ ذَلِكَ بِنَقْلِهِ قَرْنًا عَنْ قَرْنٍ، مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَتَنَازَعُونَ، فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ فَرْضًا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، لَتَوَارَثُوا عِلْمَهُ، وَنَقْلَهُ قَرْنًا عَنْ قَرْنٍ كَذَلِكَ. كَيْفَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوِتْرُ تَطَوَّعٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ. مِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ عَلِيٍّ يَجْهَلُ فَرِيضَةَ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، حَتَّى يَجْحَدَ فَرْضَهَا، فَيَزْعُمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَتْمٍ، مَنْ ظَنِّ هَذَا بِعَلِيٍّ فَقَدْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مُفَسَّرًا أَنَّ الْوِتْرَ تَطَوَّعٌ "
عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، سَأَلْتُ نَافِعًا، أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، §يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ: «نَعَمْ، هَلْ لِلْوِتْرِ فَضِيلَةٌ عَلَى سَائِرِ التَّطَوُّعِ» وَعَنْ وَاصِلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، «فَمَا أَوْتَرَ فِي سَفَرٍ قَطُّ» وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْوِتْرِ وَاجِبٌ هُوَ؟، فَقَالَ: «لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ تَسْأَلْنِي» قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ ضَعَفَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ أَنَّ فِي حَدِيثِ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ بِالْوِتْرِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَجِبْرِيلُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْفَرْضِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا خَبَرٌ غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَخْبَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى مَا قُلْتَ، قَدْ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَمَرَهُ فِيهَا بِأُمُورٍ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا تَطَوُّعٌ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا جَاءَهُ بِهِ مِنَ -[299]- الْقُرْآنِ أُمُورٌ الْعَمَلُ بِهَا تَطَوَّعٌ، فَمَا جَاءَهُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ بِقُرْآنٍ فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يَجُوزَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ تَطَوُّعًا، ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]، فَاتَّفَقَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49]، فَقَالُوا: هُمَا الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ التَّسْبِيحُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَطَوَّعٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] قَالَ عَلِيٌّ: «الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «التَّسْبِيحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «التَّسْبِيحُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ " لَمَّا نَزَلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» وَلَمَّا نَزَلَتْ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ تَطَوُّعٌ، فَإِذَا كَانَ مَا نَزَلَ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا، فَمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ أَحْرَى أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا " وَعَنْ سُفْيَانَ: " الْوِتْرُ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ، وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ، إِنْ شِئْتَ أَوْتَرْتَ بِرَكْعَةٍ، وَإِنْ شِئْتَ بِثَلَاثٍ، وَإِنْ شِئْتَ بِخَمْسٍ، وَإِنْ شِئْتَ بِسَبْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ بِتِسْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ، لَا تُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ. وَعَنْ رَبِيعَةَ: «لَا أَرَى عَلَيْكَ قَضَاءَ الْوِتْرِ إِذَا نَسِيتَهُ، وَمَا نَعْلَمُ الْوِتْرَ إِلَّا رَكْعَةً، وَإِنْ صَلَّيْتَ بَعْدَ الْعَتَمَةِ رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْكَ الْوِتْرُ، وَإِنْ لَمْ تُصَلِّ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ شَيْئًا فَلَا وِتْرَ عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُصَلِّيَ، وَذَلِكَ لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمُسَافِرِ الَّذِي لَا يُوتِرُ وَلَا يُصَلِّي بَعْدَ صَلَاتِهِ» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: يَذْهَبُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ رَبِيعَةَ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ إِنَّمَا جُعِلَ لِيُوتِرَ الرَّجُلُ بِهِ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ، وَلَا يَتْرُكُهَا شَفْعًا، لَيْسَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُهُ، فَإِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ، بِأَنْ نَامَ أَوْ شُغِلَ عَنْهَا، لَمْ يَقْضِ الْوِتْرَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ لَهُ الْوِتْرُ قَدْ فَاتَهُ، إِذْ فَاتَهُ قِيَامُ اللَّيْلِ، فَلَا وَجْهَ لِقَضَائِهِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَيُحْتَجُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ، صَلَّى بِالنَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى الْوِتْرَ، -[300]- وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَعَلَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدَ مِنَ الْوِتْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَضَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَضَى الْوِتْرَ. قَالَ: وَزَعَمَ النُّعْمَانُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى الْوِتْرَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي نَامَ عَنِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ لِلنُّعْمَانِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْوِتْرَ لَا يَجُوزُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَلَا بِأَكْثَرَ، بِأَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ بِثَلَاثٍ جَائِزٌ حَسَنٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْوِتْرِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَكْثَرَ، فَأَخَذَ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَتَرَكَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَةِ الْمُحْتَجِّ بِهَذَا بِالْأَخْبَارِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي كَرَاهَةِ الْوِتْرِ بِثَلَاثَةِ أَخْبَارٍ، بَعْضُهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهَا عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ، مِنْهَا

الصفحة 298