كتاب تاريخ الإسلام ت بشار (اسم الجزء: 15)

-سنة ست وستين وستمائة
في صَفَر عُقِد مجلسٌ بين يدي السّلطان للضياء ابن الفُقّاعيّ وجرى فيه ما اقتضى ضربُه والحَوْطةُ عليه، وأُخِذ خطّه بجملةٍ عظيمة، ثمّ لم يزل يضرب -[20]-
إلى أن مات، قال قُطْبُ الدّين: أُحصيت السّياط الّتي ضُرِبها فكانت سبعة عشر ألفًا ونيف.
وفيها وصل رسولُ صاحب اليمن الملك المظفّر شمس الدّين يوسف بن عمر بتقادم، منها: فِيل، وحمار وحْش، وخيول، ومِسْك، وعنْبر، وصينيّ، وأشياء، وطلب معاضدة السّلطان له وأنّه يخطب له في بلاده، فبعث إليه الأمير فخر الدّين إياز المقرئ ومعه خِلْعة وسَنْجَق وتقليدٌ بالسلطنة.
وفي جمادى الآخرة خرج السلطان إلى الشّام واستناب بيليك الخَزْنَدَار، فأتته رُسُل صاحب يافا فاعتقلهم وأمر العسكر بلبْس السّلاح ليلًا، وسار فصبَّح يافا، فهربوا إلى القلعة، ومُلكت المدينة بلا كلْفة، وطلب أهل القلعة الأمان، فأمَّنَهم وعوَّضهم عمّا نهب لهم أربعين ألف درهم، وركبوا في البحر إلى عكّا، ثمّ هدمت يافا وقلعتها، ثمّ سار طالبًا الشَّقِيف فنازلها وظفر بكتابٍ من عكّا إلى الشَّقِيف استفاد منه أشياءَ كَتَبَها إليهم كانت سبب الخُلْف بينهم، واشتدّ الحصار والزَّحْف والمجانيق، فطلبوا الأمان، فتسلَّم السّلطان الحصن، وكان فيه نحو خمسمائة رجل، فساروا إلى صور، وكان الحصار عشرة أيام، ثمّ سار السّلطان جريدةً فأغار على طرابُلُس، وخرَّب قُراها، وقطّع أشجارها، وغوَّر أنهارها، ورحل، فنزل على حصْن الأكراد بالمَرْج الّذي تحت الحصْن، فنزل إليه رسولٌ بإقامةٍ وضيافة، فردّها وطلب منهم دِيَة رجلٍ من أجناده قتلوه مائة ألف دينار، ثمّ رحل إلى حمص وحماة، ثم إلى فامية، ثمّ رحل ليلًا وأمر العسكر بلبْس العدّة فنزل على أنطاكيّة في أوّل رمضان، فخرجوا إليه يطلبون الأمان، وشرطوا أشياء لم يُجَبْهم إليها، وزحف عليها فافتتحها في رابع رمضان، وصمَّد غنائمها، ثمّ قسّمها على الجيش بحسب مراتبهم، وحصروا من قُتل فيها من النّصارى، فكانوا فوق الأربعين ألفًا.
وأمّا ابن عبد الظّاهر فقال: ما رُفع السيف عَن رَجُل بمدينة أنطاكية قطّ حتى لو حلف الحالف ما سلم منها أحدٌ لصدق، ثُمَّ قَالَ: وكان بها على ما يقال مائة ألف وثمانية آلاف من الذّكور، وذلك حسبما عَدَّه نائب التّتار الّذي -[21]-
ورد إليها شِحْنة واستخرج على الرّأس دينارًا، هذا سوى من دخل إليها عند هجوم العساكر من الفلاحين، وأما قلعتها فلجؤوا إليها وتحاشروا بها، فكانوا ثمانية آلاف رجل، غير الحريم والأولاد، فمات بها عالمٌ كثير في زحمة الباب، وأمّا الوزير والوالي وغيرهما فلمّا شاهدوا الحال هربوا في اللّيل في الجبال رَجّالةً، فأصبح النّاس فطلبوا الأمان من القتل وأن يؤسروا، ثمّ خرجوا في أحسن زيِّ وزينةٍ كأنّهم الزَّهْر، وصاحوا بين يدي السّلطان وسجدوا، وقالوا بصوت واحد: العفْو، ارحمْنا يرحَمَك الله، فرقَّ قلبُه ورحمهم، ورفع عنهم القتل.
قلت: هذه مجازفة متناقضة.
وكان بها طائفة من الأسرى فخلّصهم الله، وكانت أنطاكية للبَرّنس صاحب طرابُلُس، وهي مدينةٌ عظيمة، مسافةُ سُورها اثنا عشر ميلًا، وعددُ أبراجها مائةٌ وستةٌ وثلاثون بِرجًا، وشُرُفاتها أربعٌ وعشرون ألفًا وفي داخلها جبلٌ وأشجار ووحوش، وماء يجري، وفواكه مختلفة، وكان لها في يد النّصارى أكثر من مائةٍ وسبعين سنة أو نحوها.
ثمّ إنّه تسلَّم بغراس بالأمان، وكان قد هرب أكثر أهلها وتسلَّم دركوش، وصالح أهلَ القُصَير على مناصفته ومناصفة القلاع المجاورة له، ودخل دمشق في السّابع والعشرين من رمضان، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها كانت الصَّعْقة الكبرى الكائنة على غوطة دمشق في ثالث نيسان أحرقت الشّجر والثّمر والزَّرْع والكَرْم، وهلك للنّاس ما لا يُوصف، وكان السّلطان قد احتاط على الغوطة وأراد أن يتملكها، وتعثرّ النّاس بالظُّلم والمصادرة وضجُّوا واستغاثوا بالله، فلمّا شدّدوا على المسلمين وألزموهم بوزن ضمانِ بساتينهم حتّى تطرّقوا إلى الأوقاف، أحرق الله الجميع، وجاء الفلاحون والضمان بالثمر والورق والكَرم، وهو أسودٌ محروق، ورفعوا الأمر إلى نوّاب السّلطنة، فلم يلتفتوا عليهم وأهانوهم، وأُلزموا بضمان أملاكهم، والله المستعان.
قال قُطْب الدّين: احتاط السّلطان على البساتين وعلى القُرى، وهو -[22]-
نازلٌ على الشَّقِيف. وكان قد تحدَّث في ذلك مع العلماء، فقال له القاضي شمس الدّين ابن عطاء الحنفيّ: هذا لا يجوز لأحدٍ أن يتحدث فيه، وقام مغضباً وتوقف الحال، ولما وقعت الحوطة على البساتين صقعت بحيث عُدِمت الثّمار بالكُلّيّة، وظنّ النّاس أنّه يرِقّ لهم، فلمّا أراد التَّوجُّه إلى مصر عقد بدار العدل مجلسًا، وأحضر العلماء، وأخرج فتاوى الحنفيّة بأنّه يستحقها بحُكم أنّ عمر رضي الله عنه فتح دمشق عَنْوةً، ثمّ قال: من كان معه عتيقٍ أمضيناه، وإلّا فنحن فتحنا البلاد بسيوفنا، ثمّ قرر عليهم ألف ألفِ درهم عن الغُوطة، فسألوه أن يقسّطها عليهم، فأبى، وتمادى الحال إلى أنْ خرج متوجّهًا إلى مصر في ذي القعدة، فلمّا وصل إلى اللّجون عاوده الأتابك وفخر الدّين ابن حنى وزير الصُّحبة، فاستقرّ الحال إنّ يعجّلوا منها أربعمائة ألفِ دِرهم، ويُعاد إليهم ما قبضه الدّيوان من المُغَلّ ويسقط ما بقي كلّ سنة مائتي ألف درهم، وكُتِب بذلك توقيع.
قلت: جاء على كلّ مُدْي بضعة عشر درهمًا وباع النّاس أملاكهم بالهوان وعجزوا، فإنّ بعض الأمداء لا يغلّ في السّنة ستّة دراهم.
أعجوبة اللَّهُمّ أعْلَمُ بصحّتها، قد خلّدها ابن عبد الظّاهر في " السّيرة الظّاهرية "، فقال: بُعِثْتُ رسولًا إلى عكّا في الصُّلح، فبالغوا في إكرامنا ونزلنا دارًا على بابها أعلام وصُلْبان وجرص كبير كالكنائس، فحرّكوا الأجراس ومعنا رِكابيّ اسمه ريّان، فنادى: يا لله يا الله كسِّر هذه الأعلام واقْطع هذه الأجراس وملِّك السّلطان الملكَ الظّاهرَ عكّا، فما استتمّ حديثَه إلا والجرص قد انقطع والأعلام قد وقعت وتكسَّرت الرّماح.
قال قُطْب الدّين: وبعث صاحب سِيس يستفكّ ولَدَه من الأسر، فطُلِب منه من جملة الفِداء أن يسعى في خلاص الأمير شمس الدّين سُنْقُر الأشقر من التّتار، فبعث صاحبُ سِيس إليهم متوسِّلًا بطاعته وبذل أموالًا فلم يُجِيبوه، فلمّا استولى السّلطان على أنطاكية بعث إليه صاحب سِيس يبذل القِلاع الّتي كان أخذها من التّتار عند استيلائهم على حلب وهي دَرْبساك وبهَسْنا، -[23]-
ورعْبان، فأبى عليه إلّا أنْ يحضر سُنقر الأشقر، فسار صاحب سِيس إلى التّتار، واستغاث بهم على الملك الظّاهر، واستصحب معه أحد البحريّة عَلَم الدّين سلطان، فكان يجتمع بسُنْقُر الأشقر سرًّا وعليه زِيّ الأرمَن، والأشقر يخاف أن يكون دسيسة عليه فلا يُصغي إلى قوله فيقول: ما أعرف صاحب مصر، ولا أخرج عن هؤلاء القوم، فلم يزل عَلَم الدّين يذكر له أماراتٍ وعلامات عرف منها صحّة قصده، فأذعن للهرب، فلمّا خرج صاحب سِيس لبس سُنقُر الأشقر زيِّهم واختفى معهم، فلمّا وصل به صاحب سِيس إلى بلاده جاء عَلَم الدّين وعرّف السّلطانَ بوصوله، فطلب ابن صاحب سِيس من مصر، فأُحضِر إليه وهو على أنطاكية، ثمّ سيّره مع جماعة إلى سِيس، فوقفوا على النّهر به بالقُرب من حدّ دَرْبساك ووصل سُنْقُر الأشقر مع جماعةٍ من سِيس، فوقفوا على جانب النّهر، ثمّ أطلق كلٌّ من الفريقين أسيرهم، وتسلَّم نوّاب السّلطان درْبساك ورعبان وبقيت بهَسْنا، سأل صاحب سِيس من سُنْقُر الأشقر أن يشفع له عند السّلطان في إبقائها له على سبيل الإقطاع، فوعده بذلك، ولمّا وصل الخبر خرج السّلطان من دمشق لتلقّيه، فلمّا رآه ترجَّل واعتنقا طويلًا وسارا حتّى نزلا في المُخيّم، فلمّا أصبحا خرجا منه جميعًا، وشفع في بهَسْنا، فامتنع السّلطان فقال: " إني قد رهنتُ لساني معه، وأحسن إليَّ بما لا أقدر على مكافأته "، فقبِل شفاعته، وأجاب طلْبته.
وكان هولاكو قد أخذ سُنْقُر الأشقر من حبْس الملك النّاصر يوسف لمّا افتتح حلب، وعزل البابا حاكم المَوْصِل بالنّصرانيّ الفلّاح مسعود ومعه أشموط شحنة.

الصفحة 19