كتاب تاريخ الإسلام ت بشار (اسم الجزء: 15)

-سنة تسع وستين وستمائة
في صفر توجّه السّلطان من مصر في بعض العسكر إلى عسقلان، فهدم بقيّة سُورها المهمل من الأيام الصّلاحيّة.
وورد عليه الخبر بأنّ عسكر ابن أخي بركة كسر عسكر أبغا.
ثمّ بلغه أنّ أهل عكّا ضربوا رقاب جماعةٍ من الأسارى، فأخذ أعيان من عنده مِن الأسرى فغرَّقهم في النّيل، وكانوا مائة.
وفيها قبض السلطان على الملك العزيز ابن صاحب الكرك الملك المغيث.
وكان من كبار الأمراء بالقاهرة، فقبض عليه وعلى جماعة عزموا على سلطنته.
وفي جُمَادى الأولى ورد الخبر أنّ أبا نمي محمد بن أبي سعْد بن عليّ بن قَتَادة أمير مكّة تواقع هو وعمّه إدريس، فاستظهر إدريس عليه وتفرد بإمرة مكة. -[28]-
فذهب أبو نمي إلى ينُبع، فاستنجد بصاحبها، وجمع وقصد مكّة، فالتقيا، فحمل أبو نمي على عمّه فطعنه رماه، ونزل فذبحه واستبدّ بإمرة مكة.
وفي جُمَادى الآخرة خرج السّلطان بالجيش لقصْد حصن الأكراد، فبدأ بالإغارة على اللّاذقيّة، والمَرْقَب، ومرقية، وتلك النواحي، وافتتح في ذلك صافيثا، والمجدل، ثمّ نزل عَلَى حصْن الأكراد في تاسع عشر رجب، ونُصِبت المجانيق والسّتائر، وللحصن ثلاثة أسوار فأُخذت الباشورة بعد يومين وأُخذت الباشورة الثّانية في سابع شعبان، وفُتِحت الثّالثة الملاصقة للقلعة في نصف شعبان، وكان المحاصِر لها الملك السّعيد، وبيليك الخَزْنَدَار، وبَيْسَريّ الصّالحيّ، ودخلوا البلد بالسّيف، فأسروا مَن فيه من الجبليّة والفلّاحين، ثمّ أطلقهم السّلطان وتسلَّم القلعة في الخامس والعشرين من شعبان بالأمان وترحّل أهلها إلى طرابُلُس، ثمّ رتّب الأفرم لعمارة الحصن، وصيِّرت الكنيسة جامعاً.
وطلب صاحب أنطرسوس المهادنة، وبعث بمفاتيحها إلى السّلطان، فصالحه على نصف ما يُتَحَصَّل منها، وجعل عندهم نائباً وجاءت رُسُل صاحب المَرْقَب، فصالحهم على النِّصف أيضًا، وقُرِّرت الهُدنةُ عشر سِنين، وعشرة أشهر، وعشرة أيام.
ثمّ نزل السّلطان على حصن ابن عكّار، ونُصِبت المجانيق، ثمّ تسلَّمها بالأمان، وهي قلعة في واد بين جبال.
ثمّ خيَّم في رابع شوّال على طرابلس، فسيرَّ إليه صاحُبها يسأل عن سبب قصْده، فقال: لأرعى زرْعَكم وأُخرِّب بلادكم، ثمّ أعود لحصاركم، فبعث إليه يستعطفه، ثمّ هادنه عشر سنين.
وفي شوّال جاء دمشقَ سيلٌ عظيم مهُول هدم البيوت، وأخذ النُّزّال من الحجّاج الرّوميّين بين النّهرين وجِمالهم، وغرق جماعة، وذهب للنّاس شيءٌ كثير، وكان ذلك بالنّهار والشّمس طالعة، والمشمش قد شرع، فغُلقِّت أبوابُ المدينة، وطغَى الماء وارتفع حتّى بلغ أحد عشر ذراعًا، وارتفع عند باب الفَرَج ثمانية أذرُع، وكادت دمشق أنّ تغرق، وسدّت الزّيادة الأنهار بطين أصفر، ودخل الماء إلى البلد، وخرَّب خَان ابن المقدَّم، وطلع الماء فوق أسطحةٍ كثيرة -[29]-
عند جسر باب تُوما، حتّى بلغني أنّه وُجِد فوق سطحٍ سمكةٌ ميّتة، واصطادوا السّمك من رواء العادليّة عند دار ابن يغمور، وتحدَّثت العَوَامّ أنّ الّذين هلكوا بالزيّادة والرّدْم فوق الألفين، ووُجِد في بساتين مرتفعة سمكٌ في النّقع إذا رأى الشّخصُ ارتفاعَ تلك الأماكن زاد تعجُّبُه، وحدَّثني رجلٌ أن أهل الوادي الشّرقيّ وجدوا جملًا ميّتًا فوق أصل سَفَرْجَل، وضجّ الخلْق بالبكاء والاستغاثة بالله، وكان يومًا مشهودًا وأشرفَ النّاس على التَّلف، ثمّ لَطَفَ اللهُ ورحم النّاس وتَنَاقَصَ الماء، ولو ثبت ساعةً أخرى أو ارتفع ذراعًا آخر لغرِقت نصفُ دمشق.
ولبعضهم:
لقد أظهر الجبّار بعضَ اقتدارِه ... فأرسل بحرًا طاميًا من بحارِه
وأرعدها حتّى توافَتْ مياهُها ... مطنَّبة محفوفة بازدجَارِه
وأهلك فيه خَلْقَه وعبيدَه ... فأضحوا وهم غَرَقَى بأقصى قرارِه
فكَمْ مِن شبابٍ مع نساءٍ وصبيةٍ ... وكم من دوابّ قد صليْن بنارِه
فسُبْحان من أبدَى عجائبَ صُنْعِه ... وأزعج كلَّ الخلقِ عند ابتدارِه
وعاد بلُطْفٍ منه عفْوًا ومنَّةً ... فنسأله الزلفى غداً في جواره
وفي شوّال قبل يوم الزِّيادة الموصوفة جاء الشّيخ خضر شيخ السّلطان إلى كنيسة اليهود، ومعه أمراء وأعيان والوالي، وأخرجوا اليهود منها يوم سَبْتهم وآذوهم، وقرأ القرآن بها غيرُ واحدٍ، ثمّ غنّى المغنّون، ورقص النّاس بحضرة الشّيخ خضر، وكان يومًا عجيبًا، ونُهِب كلُّ ما فيها، وعمل الشّيخ ثاني يوم بسيسةً عظيمة بالسّمن والعسل، وازدحم الخلْق حتّى دِيسَت بالرجلين في الكنيسة، وفضلت ورُمِيت في نهر قلوط. واتّخذ الشّيخ خضر الكنيسة زاوية له، وكان صاحب كشْفٍ وأحوالٍ شيطانيّة، وجرى ما لا ينبغي، وسيأتي ذكر خضر في سنة ست وسبعين.
وجاء السّلطان بالجيش في نصف شوّال بعد الزّيادة بيومين إلى دمشق، ولَطَفَ اللهُ بهم إذ تأخّروا عن الزّيادة، وإلّا كانت غرّقتْ نصفَ الجيش وأكثر، فعزل السّلطان ابن خَلِّكان من القضاء بابن الصائغ، ثمّ سار بعد عشرة أيّام، فنزل على القُرَين، ونصب عليها المجانيق، وصدق أهلها في القتال، ودام -[30]-
الحصار جمعتين، ثمّ أُخذت بالأمان وهُدِمت، وكانت من أمنع الحصون.
ثمّ سار السّلطان بالجيش حتّى أشرف على عكّا، ورجع ودخل مصر في ثالث عشر ذي الحجّة، ونابَه في هذه السّفْرة فوق ثمانمائة ألف دينار، فلمّا دخل قبض على هؤلاء الأمراء الكبار: الحلبيّ، والمحمّديّ، وإيدُغدي الحاجبيّ، والمساح، وبيدغان، وطرطح؛ لأنّه بلغه عنهم أنّهم همّوا بالفتْك به.
ومن عجيب الاتّفاق أنّ مكّة جاء بها زيادةٌ وسيلٌ عَرَمْرم، بحيث أنّ الماء بلغ إلى فوق الحجر الأسود.
ومن العجائب أن مياه دمشق والعاصي والفُرات قلّت ونقصت نقصًا مجحِفًا، حتّى هلك شيءٌ من الأشجار وبَطَلَت الطّواحين، وعُمِلت طواحين بمدارات، وكانت الفواكة في هذه السنة قليلة.
وممّا جرى في هذه السّنة وقبلها وبعدها تولي القاضي نجم الدّين ابن سَنِيّ الدّولة تدريس الأمينيّة، والقاضي عزّ الدّين ابن الصّائغ تدريس العادليّة، وأخوه عماد الدّين تدريس العَذْراويّة، ورشيد الدّين الفارقيّ النّاصريّة، والبُرهان المَرَاغيّ الركُّنية، والعزّ بن عبد الحقّ الأَسَديّة، وتاج الدّين عبد الرحمن المجاهدية، وأخوه شرف الدّين الصارمية، والبهاء ابن النّحّاس القليجيّة، وابن عمّه مُجير الدّين الرَّيحانية، والوجيه ابن منجى المسماريَّة، والتقيّ الترُّكماني المعظَّمية، والشمس ابن الكمال الضّيائيّة، والعزّ عمر الأربِليّ الجاروخيّة، وشَرف الدّين ابن المقدسيّ العادلية الصغيرة.
وجهز السلطان وهو منازل حصن الأكراد سبعة عشر شينياً في البحر، عليها الرئيّس ناصر الدّين رئيّس مصر، والهواري رئيّس الإسكندرية، وعلوي رئيّس دِمياط، والجمال بن حَسُّون مقدَّم على الجميع، لكونه بَلَغَه أنّ صاحب قبرس قدِم عكّا، فاغتنم السّلطان الفُرصةَ وبعث هؤلاء إلى قبرس، فوصلوها ليلًا، فهاجت عليهم ريحٌ طردتهم عن المَرْسى وألقت بعض الشّوانيّ على بعض، فتحطّمت وتكسّر منها أحَدَ عَشَرَ شينيًّا، وأُسر من فيها من المقاتِلَة والبحّارة، وكانوا نحوًا من ألفٍ وثمانمائة، وسلِم ناصر الدّين وابن حسّون في الشّواني السّالمة. -[31]-
قال الشّيخ قُطْب الدّين: وفي ذي الحجّة أمر السّلطان بإراقة الخمور في بلاده، والوعيد على من يعصرها بالقتل، فأُرِيق ما لا يُحصر، وكان ضمانُ ذلك في ديار مصر خاصة ألف دينار في كل يوم.
قال: وفيها نزلت الفرنج على تُونس انتصارًا لأهل جَنَوَة بسبب ما أُخِذ من أموالهم، فنازلها الفرنسيس في أربعمائة ألف منها: ستّة وعشرون ألف فارس، وفيهم جماعة ملوك، ومجموع عدّه مراكبهم أربعمائة مركب، وقاتلتهم البربر والعربان والعوامّ فقُتل وَلَد الفرنسيس.
وقيل إنّ الفرنسيس مات ولم يبق عندهم ملك يحكم عليهم، وطلبت الفرنج الصُّلح، فوقع الصُّلح على ردّ مال أهل جنوة.

الصفحة 27