كتاب تاريخ الإسلام ت بشار (اسم الجزء: 15)

-سنة سبعين وستمائة
في المحَّرم ركب السّلطان من الصّناعة في الشّواني ومعه نائب السَّلْطنة بيليك الخَزْنَدَار، فلمّا صار في الشّيني مال فوقع الخزندار في البحر، فنزل خلفه من أطلعه بشعره، وقد كاد.
ثمّ خرج السّلطان إلى الكَرَك وأخذ معه النّائب عزّ الدّين أَيْدَمُر، وقدِم به دمشقَ، فجعله نائبًا عليها وعزل النّجيبيّ، ثمّ سار إلى حماة ورجع، ثمّ مضي إلى حلب، وسببُه أنّ صَمْغَرا ومعين الدّين البرواناه والتّتر لمّا عادوا من عند أبْغا في السّنة الخالية جاءهم أمرٌ بقصْد الشّام فحشدوا، وجاء صمغرا في عشرة آلاف إلى البُلُسْتَين، ثمّ إلى مَرْعَش، وبَلَغَهم إنّ السلطان بدمشق، فبعثوا من المغل ألفاً وخمسمائة للإغارة وتجسُّس الأخبار، فوصلوا إلى عين تاب ثمّ إلى قسطون، ووقعوا على التُّركُمان هناك بين حارم وأنطاكية فاستأصلوهم، فأمر السّلطان بتجفيل البلاد حتّى أهل دمشق ليُطْمع التّتار فيتوغّلون في البلاد ويتمكّن منهم، وطلب جيشَ مصر فقدموا ومقدَّمهم الأمير بدر الدّين بَيْسَريّ، فوصلتهم الأخبار فأسرعوا الرَّجعة، وساق الفارقانيّ وراء التّتر فلم يدركهم. -[32]-
وأغارت الفرنج من عثليث إلى قاقون، وأُخذت التركمان، وساق الأمير علاء الدّين طَيْبَرس الوزيريّ، وعيسى بن مُهنى، فخاضوا الفُرات إلى حرّان، فخرج إليهم مَن بها مِن التّتار، فطاردهم ابن مُهنَّى، فخرج عليهم طَيْبَرس، فلمّا رأوا الجيشَ نزلوا وقبّلوا الأرض وألقوا سلاحهم، فأخذوهم وكانوا ستّين نفْسًا، وسار طَيْبَرس فغلّقوا أبواب حَرّان سِوى بابٍ واحد، وخرج إليه الشّيخ محاسن وهو من أصحاب الشّيخ حيوة وجماعة من الأعيان، ومعهم أطعمة، فأكرمهم طيبرس، ونزل عن فرسه وأتوه بمفاتيح حَرّان، وقالوا: البلد للسّلطان أيَّده الله، ثمّ عاد طيبرس.
قال شمس الدّين محمد ابن الفخر، رحمه الله: من أعجب ما يؤرّخ أن امرأة أمشاطي في جوار دار بني هلال بباب النّاطفيّين في جُمَادى الأولى في مدّة سبعة أيّام وضعت طُروحًا أحد عشر ولدًا ذكورًا وإناثًا، وبعضهم قد كملت خلقته وبعضهم قد تبين بعضها لأربعة أشهُرٍ ونصف، وهذا غريبٌ نادر، واشتهر ذلك في دمشق، واستثبته قاضي القُضاة عز الدّين وأرّخه.
وفي جُمَادى الآخرة عبر السّلطان إلى بَرّ الجيزة، فأُخبِر أنّ ببُوصِير مغارةٌ فيها مطلب، فجمع لها خلّقًا وحفروا مدًّا طويلًا، فوجدوا كلابًا ميّتة وقِطاطًا وطُيُورًا، والكلُّ ملفوفٌ في عصائب وخرقٍ، فإذا حُلت اللّفائف ولاقي ذلك الحيوانَ الهواءُ صار هباءً، وأقاموا ينقلون من ذلك شيئاً كثيراً ولا ينفد فتركوه.
وفي شعبان احتيط على دار القاضي شمس الدّين محمد ابن العماد، وحمل ما فيه من الودائع إلى قلعة الجبل؛ وذلك لأنّ ابن العماد عزل نجم الدّين ابن حمْدان عن نيابة الحُكم لأمرٍ، فحمل أخاه التّقيَّ شبيبًا الكحّال التّعُّصبُ على أنْ كتب ورقةً إلى السلطان أن عند ابن العماد ودائع كثيرة لتُجَّارٍ من حَرّان وبغداد والشّام وقد مات أهلُها، فاستدعاه السّلطان وسأله عن الودائع فأنكر، فحلف متأوّلًا، فكُبس بيتُه، فوُجِد فيه كثيرٌ ممّا قيل، لكنّ أصحابها أحياء ومنهم من مات وله وارث، فأخذ من ذلك زكاته مدة سنتين وحنق عليه السّلطان وحبسه، فتسلَّط عليه شبيب، وادَّعى أنّه حَشَويّ، وأنّه يقدح في الدّولة وكتب بذلك محضرًا، وسافر السّلطان إلى الشّام، ثمّ عُقِد مجلسٌ بحضرة الأمير بدر الدّين بيليك الخزندار، فاستدعي بالشهود الذين -[33]-
في المحضر، فرجع بعضهم في الشَّهادة وشهِد الباقون، فأخرِق بهم وجرّحهم، وتبيّن للخَزْنَدَار تحامُل شبيب فحبَسَه، واحتاط على موجوده، وأُعيد الشّيخ شمس الدّين إلى الحبّس بالقلعة، فأقام بها سنتين إلى أنْ أُفْرِج عنه في نصف شعبان من سنة اثنتين وسبعين، ولولا عناية الخزندار به ومحبته له لكان شيئاً آخر.
وأمّا السّلطان فسار إلى الشّام وشنّ الغارات على بلاد عكّا فراسلوه، وطلبوا الصُّلْح، فصالحهم عشر سنين، ثم دخل دمشق.
وفي رمضان جاءت طائفة من التّتار، فأخربوا شرفات سور حرّان وبعض أسوقها، ونقلوا كثيرًا من أخشابها واستاقوا معهم أهلَها وأخليت ودثرت بالكلية.
وفيها وصلت رسل صمغرا والبَرَوَاناه فقالوا للسّلطان: إنّ صَمْغَرًا يقول لك: منذ جاورك في البلاد لم يصِلْه من جهتك رسول، وقد رأى من المصلحة أنْ تبعث إلى أبْغا رسولًا بما تُحبّ حتّى نُساعدك ونتوسّط، فأكرم السّلطان الرُّسُل، ثمْ بعث في الرسلية الأمير فخر الدّين إياز المقري، والأمير مبارز الدّين الطُّوريّ إلى أبْغا، وبعث له جيوشنا، وبعث لصمغرا قوسًا، فوصلا قُونية، فسار بهما البرواناه إلى أبْغا، فقال: ما شأنكما؟ قالا: إنّ سلطاننا أرسلنا يقول لك: إنْ أردت أن أكونَ مطاوِعًا لك فرُدّ ما في يدك من بلاد المسلمين، فغضب وأغلظ لهما وقال: ما يرضى رأسًا برأس، وانفصلا من غير اتّفاق.
وعندي في وقوع ذلك نَظَرٌ، لكنْ لعلّه سأله ردّ ما بيده من العراق والجزيرة، وإلّا فجميع ما بيده بلاد المسلمين.
وفيها وصلت رسل بيت بركة من عند منكوتمر بن طُغان يطلبون من السلطان الإعانة على استئصال شأفة أبغا.
وفي ذي الحجّة سار السّلطان إلى حصْن الأكراد وحصن عكّار، فأشرف عليهما، ورجع إلى دمشق.
وفيها تزوج الصاحب شرف الدّين هارون ابن الوزير شمس الدّين الجوينيّ ببغداد برابعة بنت أحمد بن أمير المؤمنين المستعصم، على صداقٍ -[34]-
مَبلغُهُ مائة ألف دينار مصريّ، وعقده قاضي القُضاة سِراجُ الدّين محمد بن أبي فِراس في دار صاحب الدّيوان علاء الدّين، بإنشاء بهاءَ الدّين عليّ بن عيسى الإربليّ، وشرطت عليه والدةُ العروس بأنْ لا يشرب الخمر، فأجاب.
واحترق ببغداد سوق النّظاميّة كلّه، واحترق فيه خلقٌ كانوا في الغرف.

الصفحة 31