كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 15)

{أَتَوَاصَوْا بِهِ} الضمير للقول، يعني: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعًا متفقين عليه؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان، والطغيان هو الحامل عليه.
[{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} 54 - 55]
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا، وعرفت عنهم العناد واللجاج، فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلغت الرسالة، وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله {وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} أي: تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانًا.
وروي أنه لما نزلت {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} حزن رسول الله واشتد ذلك على أصحابه، ورأوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله: {وذَكِّرْ}.
[{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 56]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: ليؤذن بانفصال ما صدر بها على ما قبله واتصاله بقوله: {وفِي مُوسَى إذْ أَرْسَلْنَاهُ إلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} إلى آخر القصص، فلما وسط بينهما الحديث في بيان الآيات الدالة على التوحيد، ونفي الشرك والفرار إلى تعالى عما سواه، جيء بقوله الآمر كذلك فصلًا للخطاب، ليتخلص منه إلى ما سبق له الكلام، ولو أتى بـ"لم" لاختل النظم، وأما الكلام في بيان الفرق بين "ما" و "لم" فقد سبق.
قوله: (أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا) يعني الإضراب بقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، يستدعي أن يفسر {أَتَوَاصَوْا بِهِ} بما يصح الإضراب عنه به، وذك بأن يجعل الاستفهام لإنكار أنهم لو توافقوا على أن قالوا جميعًا لرسلهم: ساحر أو مجنون في زمان واحد، وإثبات أنهم إنما قالوه لطغيانهم.

الصفحة 36