كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (اسم الجزء: 15)
فاستزريُته، وقلت: أيُّها الشيخ، قد قلت فيك شعرًا، فقال: هاته، فقلت: [من الوافر]
كأنك صَعْوةٌ في أصلِ حُشٍّ ... أصابَ الحُشَّ طَشٌّ بعدَ رشِّ (¬1)
فقال لي: فاسمع جوابك، فقلت: هات، فقال:
كأنك جندب (¬2) في دبر كبشِ ... تُدَلدلُ هكذا والكبشُ يمشي
والجندب ضربٌ من الجراد، وكان الجاحظُ قبيحَ المنظر دميمًا، ناتئ العينين، قصيرًا مشوّهًا، قال: فخجلتُ منه وانصرفت.
وأما المرأة فكنتُ راكبًا على حمارة، فحَبَقت (¬3)، وإذا بامرأتين، فقالت إحداهما للأخرى: وي وي حمارة الشيخ تفعل كذا وكذا، قال: فغاظتني، فقلت: نعم، ما حملتني أنثى إلَّا أصابَها كذا، فقالت: لقد كانت أمُّك تسعةَ أشهرٍ معكَ في جهدٍ جهيد.
وفي رواية: فضربت بيدِها على كتفِ الأخرى، وقالت: لقد كانت أمُّ هذا منه تسعةَ أشهر. . . وذكرتهُ.
قلت: وقد غلبتهُ أخرى، جاءت إليه امرأةٌ فقالت: إنَّ فلانًا يستدعيك، وذكرت رجلًا جميلًا، فقال: وما يريدُ مني؟ قالت: يسألك عن مسألة في علم الكلام، ومشى معها، وأجلسته عند صائغ وقالت: أقعد هاهنا حتى أهيِّئَ لك الجائزة، وأستأذِن لك وأعود، فقعد عند الصائغ عامَّة النهار، والصائغ ينظرُ إليه، ويردِّدُ النظرَ فيه، فضجر وقال للصائغ: أتعرف هذه المرأة؟ فقال: لا والله، وإنَّما جاءت وقالت: عندنا صبيٌّ صغيرٌ يبكي قد منعنا النوم، والساعة آتيك برجلٍ قبيحِ المنظر، تصوِّرُ [بي] (¬4) على صورته شيئًا يفزعُ به الصغير، وها أنا قد صوَّرتك في هذه الصحيفة، فقام الجاحظُ خجلًا وانصرف.
وحكى الخطيب عن [ابن] (¬5) أبي الذيَّال قال: حضرنا مع الجاحظ وليمةً، فجاء
¬__________
(¬1) الصَّعوة: عصفور صغير، والخش: المكان الذي تقضى به الحاجة في البساتين، والطش المطر الضعيف. اللسان (صعا)، (حشش)، (طشش).
(¬2) في تاريخ بغداد 14/ 128، وتاريخ دمشق 54/ 354 (طبعة مجمع اللغة)، والمنتظم 12/ 94: كندب.
(¬3) أي: ضرطت. القاموس (حبق).
(¬4) ما بين حاصرتين من (ب).
(¬5) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد 14/ 129.