كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 15)
وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ أَوْلَى بِاْلَبَيانِ مِنَ الْفِدَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا أُمِرَ بِالذَّبْحِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَإِنْهَارُ الدَّمِ، وَإِنَّمَا رَأَى أَنَّهُ أَضْجَعَهُ لِلذَّبْحِ فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالذَّبْحِ الْحَقِيقِيِّ، فَلَمَّا أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِضْجَاعِ قِيلَ لَهُ:" قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا" وَهَذَا كُلُّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمَفْهُومِ. وَلَا يُظَنُّ بِالْخَلِيلِ وَالذَّبِيحِ أَنْ يَفْهَمَا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَا لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُمَا التَّوَهُّمُ. وَأَيْضًا لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَمَا احْتِيجَ إِلَى الْفِدَاءِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَانْظُرْ مَاذَا تَرى " قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ غَيْرَ عَاصِمٍ" مَاذَا تُرِي" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ أُرِيَ يُرِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ فَانْظُرْ مَاذَا تُرِي مِنْ صَبْرِكَ وَجَزَعِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ مَاذَا تُشِيرُ، أَيْ مَا تُرِيَكَ نَفْسُكَ مِنَ الرَّأْيِ. وَأَنْكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ" تُرِي" وَقَالَ: إِنَّمَا يَكُونَ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ خَاصَّةً. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مَشْهُورٌ، يُقَالُ: أَرَيْتُ فُلَانًا الصَّوَابَ، وَأَرَيْتُهُ رُشْدَهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. الْبَاقُونَ" تَرَى" مُضَارِعُ رَأَيْتَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالْأَعْمَشِ" تُرَى" غَيْرُ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَلَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُؤَامَرَةِ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا شَاوَرَهُ لِيَعْلَمَ صَبْرَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ، أَوْ لِتَقَرَّ عَيْنُهُ إِذَا رَأَى مِنَ ابْنِهِ طَاعَةً فِي أَمْرِ اللَّهِ. فَ" قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ" أَيْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ فَحُذِفَ الْجَارُّ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ:
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ
فَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ فَصَارَ تُؤْمَرُهُ ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَاءُ، كَقَوْلِهِ:" وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى " [النمل: ٥٩] أَيِ اصْطَفَاهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ «١». وَ" مَا" بِمَعْنَى الَّذِي." سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ: لَمَّا اسْتَثْنَى وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلصَّبْرِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي" يا أَبَتِ" [يوسف: ٤] وكذلك في" يا بُنَيَّ" [يوسف: ٥] في" يوسف" «٢» وغيرها.
---------------
(١). راجع ج ١٣ ص ٢٢ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). راجع ج ٩ ص ١٢١ طبعه أولى أو ثانية. وج ٢ ص ١٣٦ طبعه ثانيه.
الصفحة 103