كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 15)

مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رُؤْيَةُ حَرَكَاتِهَا، وَالثَّابِتَةُ تَجْرِي وَلَا تُرَى حَرَكَاتُهَا لِبُعْدِهَا. وَقَدْ مَضَى هَذَا. وَجَمْعُ شِهَابٍ شُهُبٌ، وَالْقِيَاسُ فِي الْقَلِيلِ أَشْهِبَةٌ وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ وَ" ثاقِبٌ" مَعْنَاهُ مُضِيءٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو مِجْلَزٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَزَنْدُكَ أَثْقَبُ أَزْنَادِهَا

أَيْ أَضْوَأُ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ فِي الْجَمْعِ: شُهُبٌ ثُقُبٌ وَثَوَاقِبُ وَثِقَابٌ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: ثَقَبَتِ النَّارُ تَثْقُبُ ثَقَابَةً وَثُقُوبًا إِذَا اتَّقَدَتْ، وَأَثْقَبْتُهَا أَنَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي الثَّاقِبِ: إِنَّهُ الْمُسْتَوْقِدُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَثْقِبْ زَنْدَكَ أَيِ استوقد نارك، قال الْأَخْفَشُ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
بَيْنَمَا الْمَرْءُ شِهَابٌ ثاقب ... وضرب الدهر سناه فخمد

[سورة الصافات (٣٧): الآيات ١١ الى ١٧]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاسْتَفْتِهِمْ" أَيْ سَلْهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِفْتَاءِ الْمُفْتِي." أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا" قَالَ مُجَاهِدٌ: أي من خلقنا من السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ. وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَمَنْ سَلَفَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ" بِمَنْ" قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ:" مَنْ" الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ وَقَدْ هَلَكُوا وَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْهُمْ. نَزَلَتْ فِي أَبِي الْأَشَدِّ بْنِ كِلْدَةَ، وَسُمِّيَ بِأَبِي الْأَشَدِّ لِشِدَّةِ بَطْشِهِ وَقُوَّتِهِ. وَسَيَأْتِي فِي" الْبَلَدِ" ذِكْرُهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ:" لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ" [غافر: ٥٧] وقوله:" أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ" [النازعات: ٢٧]." إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ" أَيْ لَاصِقٍ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
تعلم فإن الله زادك بسطة ... ووأخلاق خَيْرٍ كُلُّهَا لَكَ لَازِبُ

الصفحة 68