كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 15)

أبي بكر، وَأنكر هَذَا، وَقَالُوا: مَا ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحلهَا شَيْئا وَلَا أَنَّهَا طالبت بِهِ. فَإِن قلت: رووا أَن فَاطِمَة طلبت فدك، وَذكرت أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقطعها إِيَّاهَا وَشهد عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على ذَلِك فَلم يقبل أَبَا بكر شَهَادَته، لِأَنَّهُ زَوجهَا. قلت: هَذَا لَا أصل لَهُ وَلَا يثبت بِهِ رِوَايَة أَنَّهَا ادَّعَت ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ أَمر مفتعل لَا يثبت. قَوْله: (مَا ترك) بَيَان أَو بدل لميراثها. قَوْله: (مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ) من الْفَيْء، وَهُوَ مَا حصل لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَمْوَال الْكفَّار من غير حَرْب وَلَا جِهَاد. قَوْله: (لَا نورث) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: جَمِيع الرواه لهَذِهِ اللَّفْظَة يَقُولُونَهَا بالنُّون: لَا نورث، يَعْنِي جمَاعَة الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: نَحن معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث. قَوْله: (مَا تركنَا) فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. (وَصدقَة) بِالرَّفْع خَبره، وَقد صحف بعض الشِّيعَة هَذَا وَقَالَ: لَا يُورث، بياء آخر الْحُرُوف، وَمَا تركنَا صَدَقَة، بِالنّصب على أَن يَجْعَل: مَا، مَفْعُولا لما لم يسم فَاعله، و: صَدَقَة، تنصب على الْحَال، يكون معنى الْكَلَام: أَن مَا نَتْرُك صَدَقَة لَا يُورث، وَهَذَا مُخَالف لما وَقع فِي سَائِر الرِّوَايَات، وَإِنَّمَا فعل الشِّيعَة هَذَا واقتحموه لما يلْزمهُم على رِوَايَة الْجُمْهُور من فَسَاد مَذْهَبهم، لأَنهم يَقُولُونَ: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُورث كَمَا يُورث غَيره من الْمُسلمين مُتَمَسِّكِينَ بِعُمُوم الْآيَة الْكَرِيمَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا نورث بِفَتْح الرَّاء، وَالْمعْنَى على الْكسر أَيْضا صَحِيح.
ثمَّ الْحِكْمَة فِي سَبَب عدم مِيرَاث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه لَا يظنّ بهم أَنهم جمعُوا المَال لورثتهم، وَقيل: لِئَلَّا يخْشَى على وارثهم أَن يتَمَنَّى لَهُم الْمَوْت فَيَقَع فِي مَحْذُور عَظِيم. وَقيل: لأَنهم كالآباء لأمتهم، فَمَا لَهُم لكل أَوْلَادهم، وَهُوَ معنى الصَّدَقَة. قَوْله: (فهجرت أَبَا بكر) قَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا كَانَ هجرها انقباضاً عَن لِقَائِه وَترك مواصلته، وَلَيْسَ هَذَا من الهجران الْمحرم، وَأما الْمحرم من ذَلِك أَن يلتقيا فَلَا يسلم أَحدهمَا على صَاحبه وَلم يرو أحد أَنَّهُمَا التقيا وامتنعا من التَّسْلِيم، وَلَو فعلا ذَلِك لم يَكُونَا متهاجرين إلاَّ أَن تكون النُّفُوس مظهرة للعداوة والهجران، وَإِنَّمَا لازمت بَيتهَا فَعبر الرَّاوِي عَن ذَلِك بالهجران. وَقد ذكر فِي كتاب (الْخمس) تأليف أبي حَفْص بن شاهين عَن الشّعبِيّ: أَن أَبَا بكر قَالَ لفاطمة: يَا بنت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا خير عَيْش حَيَاة أعيشها وَأَنت عليَّ ساخطة؟ فَإِن كَانَ عنْدك من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي ذَلِك عهد فَأَنت الصادقة المصدقة المأمونة على مَا قلت. قَالَ: فَمَا قَامَ أَبُو بكر حَتَّى رضيت وَرَضي. وروى الْبَيْهَقِيّ عَن الشّعبِيّ قَالَ: لما مَرضت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَتَاهَا أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَاسْتَأْذن عَلَيْهَا فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يَا فَاطِمَة هَذَا أَبُو بكر يسْتَأْذن عَلَيْك فَقَالَت: أَتُحِبُّ أَن آذن لَهُ؟ قَالَ: نعم، فَأَذنت لَهُ فَدخل عَلَيْهَا يَتَرَضَّاهَا، فَقَالَ: وَالله مَا تركت الدَّار وَالْمَال والأهل وَالْعشيرَة إلاَّ ابْتِغَاء مرضاة الله ومرضاة رَسُوله ومرضاتكم أهل الْبَيْت، ثمَّ ترضاها حَتَّى رضيت، وَهَذَا قوي جيد، وَالظَّاهِر أَن الشّعبِيّ سَمعه من عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَو مِمَّن سَمعه من عَليّ. فَإِن قلت: روى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد عَن أبي الطُّفَيْل، قَالَ: لما قبض رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسلت فَاطِمَة إِلَى أبي بكر: لأَنْت ورثت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم أَهله؟ فَقَالَ: لَا بل أَهله. قَالَت: فَأَيْنَ سهم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ أَبُو بكر: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن الله تَعَالَى إِذا أطْعم نَبيا طعمة ثمَّ قَبضه جعله للَّذي يقوم من بعده، فَرَأَيْت أَن أرده على الْمُسلمين. قَالَت: فَأَنت وَمَا سَمِعت من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: فِي لَفْظَة غرابة ونكارة، وَفِي إِسْنَاده من يتشيع، وَأحسن مَا فِيهِ قَوْلهَا: أَنْت وَمَا سَمِعت من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا هُوَ المظنون بهَا، واللائق بأمرها وسيادتها وَعلمهَا ودينها. قَوْله: (وفدك) بِالْفَاءِ وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ المفتوحتين منصرفاً وَغير منصرف، بَينهَا وَبَين مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرحلتان، وَقيل: ثَلَاث. قَوْله: (وصدقته بِالْمَدِينَةِ) أَي: أملاكه الَّتِي بِالْمَدِينَةِ الَّتِي صَارَت بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَة، وَيُقَال: صدقته بِالْمَدِينَةِ أَمْوَال بني النَّضِير، وَكَانَت قريبَة من الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَهِي مِمَّا أَفَاء الله على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا لم يوجف عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ بخيل وَلَا ركاب، وَقَالَ عِيَاض: الصَّدقَات الَّتِي صَارَت إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَحدهَا: من وَصِيَّة مخيريق يَوْم أحد، وَكَانَت سبع حَوَائِط فِي بني النَّضِير. قلت: مخيريق كَانَ يَهُودِيّا فَأعْطى تِلْكَ الحوائط لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد إِسْلَامه. الثَّانِي: مَا أعطَاهُ الْأَنْصَار من أَرضهم، وَهُوَ مِمَّا لَا يبلغهُ المَاء، وَكَانَ هَذَا ملكا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِنْهَا حَقه من الْفَيْء من أَمْوَال بني النَّضِير، كَانَت لَهُ خَاصَّة حِين أجلاهم، وَكَذَا نصف أَرض فدك، صَالح أَهلهَا بعد

الصفحة 20