كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 15)

{يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب} (مَرْيَم: 6) . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} (النَّمْل: 61) . وَحمل جُمْهُور الْعلمَاء الْآيَتَيْنِ على مِيرَاث الْعلم والنبوة وَالْحكمَة ومنطق الطير فِي حق سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (قد قَالَ ذَلِك) أَي: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نورث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة، وَكَذَلِكَ معنى قَوْله: قد قَالَ ذَلِك، فِي الْمَوْضِعَيْنِ الآخرين. قَوْله: (وَلم يُعْطه أحدا غَيره) أَي: لم يُعْط الْفَيْء أحدا غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ خصص الْفَيْء كُله لَهُ، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور، أَو جله، كَمَا هُوَ مَذْهَب الشافعة. وَقيل: أَي حَيْثُ حلل الْغَنِيمَة لَهُ وَلم تحل لسَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ القَاضِي: تَخْصِيصه بالفيء إِمَّا كُله أَو بعضه،، وَهل فِي الْفَيْء خمس أم لَا؟ قَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا نعلم أحدا قبل الشَّافِعِي قَالَ بالخمس. قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ {وَمَا أَفَاء الله على رَسُول مِنْهُم} ) (الْحَشْر: 6) . إِلَى قَوْله: {قدير} (الْحَشْر: 6) . وَتَمام الْآيَة: {فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير} (الْحَشْر: 6) . أَي: وَمَا رد الله على رَسُوله وَرجع إِلَيْهِ، وَمِنْه فِي فَيْء الظل، والفيء كالعود وَالرُّجُوع يسْتَعْمل بِمَعْنى الْمصير، وَإِن لم يتَقَدَّم ذَلِك قَوْله: فَمَا أَوجَفْتُمْ، من الإيجاف من الوجيف، وَهُوَ السّير السَّرِيع وَالْمعْنَى: إِنَّمَا جعل الله لرَسُوله من أَمْوَال بني النَّضِير شَيْئا لم تحصلوه بِالْقِتَالِ وَالْغَلَبَة، وَلَكِن سلط الله رَسُوله عَلَيْهِم وعَلى أَمْوَالهم كَمَا كَانَ يُسَلط رسله على أعدائهم، فَالْأَمْر فِيهِ مفوض إِلَيْهِ يَضَعهُ حَيْثُ يَشَاء، وَهُوَ معنى قَوْله: فَكَانَت هَذِه خَالِصَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا حق لأحد فِيهَا، فَكَانَ يَأْخُذ مِنْهَا نَفَقَته وَنَفَقَة أَهله وَيصرف الْبَاقِي فِي مصَالح الْمُسلمين، وَفِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن الله خص رَسُوله بِخَاصَّة لم يخصص بهَا أحدا غَيره. قَالَ: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ} (الْحَشْر: 7) . مَا أَدْرِي هَل قَرَأَ الْآيَة الَّتِي قبلهَا أم لَا. قَالَ: فقسم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنكُم أَمْوَال بني النَّضِير، فوَاللَّه مَا اسْتَأْثر عَلَيْكُم وَلَا أَخذهَا دونكم حَتَّى بَقِي هَذَا المَال، وَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْخُذ مِنْهُ نَفَقَته سنة ثمَّ يَجْعَل مَا بَقِي أُسْوَة المَال. انْتهى. وَهَذَا تَفْسِير لرِوَايَة البُخَارِيّ فِي نفس الْأَمر. فَقَوله: (وَالله مَا احتازها) أَي: مَا جمعهَا دونكم، وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي. قَوْله: (وَلَا اسْتَأْثر بهَا) ، أَي: وَلَا استبد بهَا وتخصص بهَا عَلَيْكُم. قَوْله: (وبثها فِيكُم) ، أَي: فرقها عَلَيْكُم. قَوْله: قَوْله: (نَفَقَة سنتهمْ) ، فَإِن قلت: كَيفَ يجمع هَذَا مَعَ مَا ثَبت أَن درعه حِين وَفَاته كَانَت مَرْهُونَة على الشّعير استدانة لأَهله؟ قلت: كَانَ يعْزل مِقْدَار نَفَقَتهم مِنْهُ ثمَّ ينْفق ذَلِك أَيْضا فِي وُجُوه الْخَيْر إِلَى حِين انْقِضَاء السّنة عَلَيْهِم. قَوْله: (فَجعل مَال الله) ، بِفَتْح الْمِيم وَهُوَ مَوضِع الْجعل بِأَن يَجعله فِي السِّلَاح والكراع ومصالح الْمُسلمين. قَوْله: (فَلَمَّا بدا) ، أَي: ظهر وَصَحَّ لي. قَوْله: (من ابْن أَخِيك) ، وَهُوَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن أَخَاهُ عبد الله وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن عبد الله. قَوْله: (يُرِيد نصيب امْرَأَته من أَبِيهَا) أَي: يُرِيد عَليّ بن أبي طَالب نصيب زَوجته فَاطِمَة الَّذِي آل إِلَيْهَا من أَبِيهَا، وَهُوَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: إِن كَانَ الدّفع إِلَيْهِمَا صَوَابا فَلم لم يَدْفَعهُ فِي أول الْحَال؟ وإلاَّ فَلم دَفعه فِي الآخر؟ وَأجَاب بِأَنَّهُ منع أَولا: على الْوَجْه الَّذِي كَانَا يطلبانه من التَّمَلُّك، وَثَانِيا: أعطاهما على وَجه التَّصَرُّف فِيهَا كَمَا تصرف رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاحباه أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذِه الْقِصَّة مشكلة جدا، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا إِذا كَانَا قد أخذا هَذِه الصَّدَقَة من عمر على الشريطة الَّتِي شَرطهَا عَلَيْهِم، وَقد اعترفا بِأَنَّهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تركنَا صَدَقَة، وَقد شهد الْمُهَاجِرُونَ بذلك، فَمَا الَّذِي بدا لَهما بعد حَتَّى تخاصما، وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَنه كَانَ يشق عَلَيْهِمَا الشّركَة، فطلبا أَن يقسم بَينهمَا ليستبد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّف فِيمَا يصير إِلَيْهِ فمنعهما عمر الْقسم لِئَلَّا يجْرِي عَلَيْهِمَا اسْم الْملك، لِأَن الْقِسْمَة إِنَّمَا تقع فِي الْأَمْوَال ويتطاول الزَّمَان، فتظن بِهِ الملكية. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وَلما صَارَت الْخلَافَة إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يغيرها عَن كَونهَا صَدَقَة. قَوْله: (قَضَاء غير ذَلِك) ، أَي: غير الَّذِي قضى بِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: وَالله لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا بِغَيْر ذَلِك حَتَّى تقوم السَّاعَة. قَوْله: (فادفعاها إليَّ) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: فَإِن عجزتما عَنْهَا فرداها إليَّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن عليا وَالْعَبَّاس اخْتَصمَا فِي مَا أَفَاء الله على رَسُوله من مَال بني النَّضِير وَلم يتنازعا فِي الْخمس، وَإِنَّمَا تنَازعا فِيمَا كَانَ خَاصّا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الْفَيْء، فَتَركه صَدَقَة بعد وَفَاته. وَفِيه: أَنه يجب أَن يولي أَمر كل قَبيلَة سَيِّدهَا لِأَنَّهُ أعرف بِاسْتِحْقَاق كل رجل مِنْهُم لعلمه بهم. وَفِيه: التَّرْخِيم لَهُ، وَلَا عَار على المنادى بذلك وَلَا نقيصة. وَفِيه: استعفاؤه

الصفحة 25