كتاب شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (اسم الجزء: 1)

النَّصْرِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَةِ الْبَشَرِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُجِيبُ دَعَوَاتِهِ، وَيُهْلِكُ أَعْدَاءَهُ، وَيَرْفَعُ لَهُ ذِكْرَهُ، هَذَا وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَأَبْطَلَ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَبَدَّلَهَا وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَهُ، وَاسْتَمَرَّتْ نُصْرَتُهُ عَلَيْهِمْ دَائِمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ، وَلَا يَقْطَعُ مِنْهُ الْوَتِينَ.
فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا صَانِعَ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَبِّرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مُدَبِّرٌ قَدِيرٌ حَكِيمٌ، لَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَقَابَلَهُ أَعْظَمَ مُقَابَلَةٍ، وَجَعَلَهُ نَكَالًا لِلصَّالِحِينَ. إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُلُوكِ غَيْرُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ؟ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَأَظْهَرَ دَعْوَتَهُ وَالشَّهَادَةَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَذَّابِينَ قَامَ فِي الْوُجُودِ، وَظَهَرَتْ لَهُ شَوْكَةٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، بَلْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَقَطَعُوا دَابِرَهُ وَاسْتَأْصَلُوهُ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى إِنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ - قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 30 - 31] (الطُّورِ: 30 - 31) . أَفَلَا تَرَاهُ يُخْبِرُ أَنَّ كَمَالَهُ وَحِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ تَأْبَى أَنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبَادِهِ كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] (الشُّورَى: 24) . وَهُنَا انْتَهَى جَوَابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أَخْبَرَ خَبَرًا جَازِمًا

الصفحة 154