كتاب شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (اسم الجزء: 1)

النِّدَاءَ مِنْ حَافَةِ الْوَادِي، ثُمَّ قَالَ: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص: 30] . أَيْ: إِنَّ النِّدَاءَ كَانَ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ، كَمَا يَقُولُ سَمِعْتُ كَلَامَ زَيْدٍ مِنَ الْبَيْتِ، يَكُونُ مِنَ الْبَيْتِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لَا أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ! وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي الشَّجَرَةِ، لَكَانَتِ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ: {يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] . وَهَلْ قَالَ: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] ، غَيْرُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَدَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] (النَّازِعَاتِ: 24) صِدْقًا، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ قَدْ قَالَهُ غَيْرُ اللَّهِ! وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ: أَنَّ ذَاكَ كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الشَّجَرَةِ، وَهَذَا كَلَامٌ خَلَقَهُ فِرْعَوْنُ! ! فَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَاعْتَقَدُوا خَالِقًا غَيْرَ اللَّهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] (الْحَاقَّةِ: 40، وَالتَّكْوِيرِ: 19) . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَهُ، إِمَّا جَبْرَائِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ.
قِيلَ: ذِكْرُ الرَّسُولِ مُعَرَّفٌ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ مُرْسِلِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بَلَّغَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ بِهِ، لَا أَنَّهُ أَنْشَأَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ. وَأَيْضًا: فَالرَّسُولُ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ جِبْرِيلُ، وَفِي الْأُخْرَى مُحَمَّدٌ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّبْلِيغِ، إِذْ لَوْ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا امْتَنَعَ أَنْ يُحْدِثَهُ الْآخَرُ.

الصفحة 183