كتاب شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (اسم الجزء: 1)

كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. فَالْحَقَائِقُ لَهَا وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَلَكِنَّ الْأَعْيَانَ تُعْلَمُ، ثُمَّ تُذْكَرُ، ثُمَّ تُكْتَبُ. فَكِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ وَاسِطَةٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي يُكْتَبُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا لِسَانٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، أَوْ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ: وَاضِحٌ.
فَقَوْلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] (الشُّعَرَاءِ: 196) ، أَيْ ذِكْرَهُ وَوَصْفَهُ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ. إِذِ الْقُرْآنُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، لَمْ يُنْزِلْهُ عَلَى غَيْرِهِ أَصْلًا، وَلِهَذَا قَالَ فِي الزُّبُرِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي الصُّحُفِ، وَلَا فِي الرَّقِّ، لِأَنَّ الزُّبُرَ جَمْعُ زَبُورٍ وَالزُّبُرَ هُوَ: الْكِتَابَةُ وَالْجَمْعُ، فَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] (الشُّعَرَاءِ: 196) أَيْ: مَزْبُورِ الْأَوَّلِينَ، فَفِي نَفْسِ اللَّفْظِ وَاشْتِقَاقِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ، وَيُبَيِّنُ كَمَالَ بَيَانِ الْقُرْآنِ وَخُلُوصِهِ مِنَ اللَّبْسِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} [الأعراف: 157] (الْأَعْرَافِ: 156) ، أَيْ: ذِكْرُهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ. {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] (الطُّورِ: 3) وَ {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] (الْبُرُوجِ: 22) وَ {كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] (الْوَاقِعَةِ: 78) ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الظَّرْفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَامَّةِ، مِثْلَ الْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْحُصُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُقَدَّرُ: مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ، أَوْ فِي رَقٍّ.

الصفحة 193