كتاب شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (اسم الجزء: 1)

وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَنْتُمْ كُنْتُمْ مُعْتَرِفِينَ بِالصَّانِعِ، مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّكُمْ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَدْ شَهِدْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّ شَهَادَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ إِقْرَارُهُ بِالشَّيْءِ لَيْسَ إِلَّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] (النِّسَاءِ: 135) . وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِكَذَا، بَلْ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ، فَلِمَ عَدَلْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ الَّذِي شَهِدْتُمْ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَى الشِّرْكِ؟ بَلْ عَدَلْتُمْ عَنِ الْمَعْلُومِ الْمُتَيَقَّنِ إِلَى مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ حَقِيقَةٌ، تَقْلِيدًا لِمَنْ لَا حُجَّةَ مَعَهُ، بِخِلَافِ اتِّبَاعِهِمْ فِي الْعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ فَسَادُهَا، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لَكُمْ، بِخِلَافِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَهُ وَعُدُولَكُمْ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ.
فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الصَّبِيُّ عَنْ أَبَوَيْهِ هُوَ: دِينُ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الطِّفْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَافِلٍ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِهِ أَبَوَاهُ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الطِّفْلَ مَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى دِينِهِمَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا الدِّينُ لَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ - عَلَى الصَّحِيحِ - حَتَّى يَبْلُغَ وَيَعْقِلَ وَتَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَحِينَئِذٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ دِينَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ هُوَ أَنَّهُ دِينٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ آبَاؤُهُ مُهْتَدِينَ، كَيُوسُفَ الصِّدِّيقِ مَعَ آبَائِهِ، قَالَ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] (يُوسُفَ: 38) ، وَقَالَ لِيَعْقُوبَ بَنُوهُ: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] (الْبَقَرَةِ: 133) ، وَإِنْ كَانَ الْآبَاءُ مُخَالِفِينَ الرُّسُلَ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ الرُّسُلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8] الْآيَةَ (الْعَنْكَبُوتِ: 8) .

الصفحة 315