كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
على ذنبه بحجته، واللطيفة الثانية: أن يعلم أن طلب البصير الصادق سنته لم تبق له حسنه بحال لأنه يسير بين مشاهدة المنة ويطلب عيب النفس والعمل، واللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبد الحكم لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم، فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا واستقباح هذا بل مشاهدة الحكم تزيد البصير استحسانا للحسن واستقباحا للقبيح وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباله فإنه يوافق في ذلك ربه ورسله ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العلى وقد كان شيخ الإسلام في ذلك موافقا للأمر وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة وكلامه المتقدم بين في رسوخ قدمه في استقباح ما قبحه الله واستحسان ما حسنه الله وهو كالمحكم فيه وهذا متشابه فيرد إلى محكم كلامه والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي في شرحه فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام فقال الفناء عبارة عن اصطلام العبد لغلبة وجود الحق وقوة العلم به في العبد فيزيد بذلك يقينه به ومعرفته به وبصفاته سبحانه فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من الأمور المهمة مثاله رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض فأذهله ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به وهذا تقريب والأمر فوق ذلك فكيف بمن أشهده الله عز وجل فردانيته حيث كان ولا شيء معه فرأى الأشياء مواتا لا قوام لها إلا بقدرته فشهدها خيالا كالهباء بالنسبة إلى وجود الحق تعالى وذلك في البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد التصفية والتدرب في القيام بأعباء الشريعة وحمل أثقالها والتخلق بأخلاقها وصفى الله عبده من درنه ويكشف لقلبه فيرى حقائق الأشياء فمتى تجلت على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالة على عظمة الفردانية تلاشى الوجود الذي للعبد واضمحل كما يتلاشى الليل إذا أسفر عليه الصباح ويكون العبد في ذلك آكلا شاربا فلا يظهر عليه شيء مغاير لما اعتاده لكن يزداد إيمانه ويقينه حتى ربما غطى إيمانه عن قلبه كل شيء في أوقات سكره ويبقى وجوده كالخيال قائما بالعبودية في حضرة ذي الجلال وتعود عليه البصائر الصحيحة في معرفة الأشياء عند صحوه ثم يزول عنه عدم التمييز ويقوى على حاله فيتصرف وذلك هو البقاء بحيث يتصرف في الأشياء ولا يحجب عنه ما وجده من الإيمان والإيقان في حال البقاء بل يعود عليه شعوره الأول بوجود آخر يتولاه الله عز وجل مشهده فيه قيامه عليه بتدبيره ويصل إلى مقام المراد بعد عبوره على مقام المريد فيصير به يسمع وبه ينطق كما جاء في الحديث الصحيح ووجه آخر وهو أن الفاني في حال فنائه قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحوة والتمييز فيستر من قلبه محل الزهد والصبر والورع لا بمعنى أن تلك المقامات ذهبت وارتفع عنها العبد لكن بمعنى أن الشهود ستر محلها من القلب وانطوت واندرجت في ضمن ما وجده اندراج الحال النازل في الحال العالي فصارت فيما وجده الواجد من وجود الحق ضمنا وتبعا وصار القلب مشتغلا بالحال الأعلى عن الحال الأدنى بحيث لو فتش قلب العبد لوجد فيه الزهد والورع وحقائق الخوف والرجاء مستورا بأمثال الجبال من الأحوال الوجودية التي يضيق القلب عن الاتساع لمجموعها وفي حال البقاء والصحو والتمييز تعود عليه تلك المقامات بالله لا بوجود نفسه إذا علمت ذلك انحل إشكال قوله إن مشاهدة العبد لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة
الصفحة 16
310