كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل

حصل له من معرفته بربه ومحبته ما يناسب قوة فطرته وضعفها وهذا كما يشاهد في الأطفال من محبة جلب المنافع ودفع المضار بحسب كمال التمييز وضعفه فكلاهما أمر حاصل مع النشأة على التدريج شيئا فشيئا إلى أن يصل إلى حده الذي ليس في الفطرة استعداد لأكثر منه لكن قد يتفق لكثير من الفطر موانع متنوعة تحول بينها وبين مقتضاها وموجبها، الوجه السادس أنه من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم وداع حصل لها من العلم والإرادة بحسبه ومن المعلوم أن كل نفس قابلة لمعرفة الحق وإرادة الخير ومجرد التعليم لا يوجب تلك القابلية فلولا أن في النفس قوة تقبل ذلك لم يحصل لها القبول فإن لحصوله في المحل شروط مقبولة له وذلك القبول هو كونه مهيأ له مستعدا لحصوله فيه وقد بينا أنه يمتنع أن يكون سببه ذلك وضده إلى النفس سواء، الوجه السابع أنه من المعلوم مشاركة الإنسان لنوع الحيوان في الإحساس والحركة الإرادية وحبس الشعور وأن الحيوان البهيم قد يكون أقوى إحساسا وحياة وشعورا من الإنسان وليس بقابل لما الإنسان قابل له من معرفة الحق وإرادته دون غيره فلولا قوة في الفطرة والنفس الناطقة اختص بها الإنسان دون الحيوان يقبل بها أن يعرف الحق ويريد الخير لكان هو والحيوان في هذا العدم سواء وحينئذ يلزم أحد أمرين كلاهما ممتنع أما كون الإنسان فاقدا لهذه المعرفة والإرادة كغيره من الحيوانات أو تكون حاصلة لها كحصولها للإنسان فلولا أن في الفطرة والنفس الناطقة قوة تقتضي ذلك لما حصل لها ولو كان بغير قوة ومقتضى منها لا يمكن حصوله للجمادات والحيوانات لكن فاطرها وبارئها خصها بهذه القوة القابلية وفطرها عليها يوضحه، الوجه الثامن أنه لو كان السبب مجرد التعليم من غير قوة قابلة لحصل ذلك في الجمادات والحيوانات لأن السبب واحد ولا قوة هناك يهيئ بها هذا المحل من غيره فعلم أن حصول ذلك في محل دون محل هو لاختلاف القوابل والاستعدادات، الوجه التاسع أن حصول هذه المعرفة والإرادة في العدم المحض محال فلا بد من وجود المحل وحصوله في موجود غير قابل محال بل لا بد من قبول المحل وحصوله من غير مدد من الفاعل إلى القابل فلو قطع الفاعل إمداده لذلك المحل القابل لم يوجد ذلك المقبول فلا بد من الإيجاد والإعداد والإمداد فإذا استحال وجود القبول من غير إيجاد المحل استحال وجوده من غير إعداده وإمداده والخلاق العليم سبحانه هو الموجد المعد الممد، الوجه العاشر أنه من المعلوم أن النفس لا توجب بنفسها لنفسها حصول العلم والإرادة بل لا بد فيها من قوة يقبل بها ذلك لا تكون هي المعطية لتلك القوة وتلك القوة لا تتوقف على أخرى والإلزام التسلسل الممتنع والدور الممتنع وكلاهما ممتنع فها هنا ثلاثة أمور أحدها وجود قوة قابلة الثاني أن تلك القوة ليست هي المعطية لها الثالث أن تلك القوة لا تتوقف على قوة أخرى فحينئذ لزم أن يكون فاطرها وبارئها قد فطرها على تلك القوة وأعدها بها لقبول ما خلقت له وقد علم بالضرورة أن نسبة ذلك إليها وضده ليسا على السواء، الوجه الحادي عشر إنا لو فرضنا توقف هذه المعرفة والمحبة على سبب خارج أليس عند حصول ذلك السبب يوجد في الفطرة ترجيح ذلك ومحبته على ضده فهذا الترجيح والمحبة والأمر مركوز في الفطرة، الوجه الثاني عشر إنا لو فرضنا أنه لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج لكانت الفطرة مقتضية لإرادة المصلح وإيثاره على ما سواه وإذا كان المقتضى موجودا والمانع مفقودا وجب حصول الأثر فإنه لا يتخلف إلا لعدم مقتضيه أو لوجود مانعه

الصفحة 305