كتاب تفسير العثيمين: غافر

ولا يَكون له هَمٌّ إلَّا تَتبُّع الناس، وقيل وقال وكَثْرة السؤال، وهذا لا شَكَّ أنه مَضيَعة وتَشاغَل بالمُهِمِّ إن كان مُهِمًّا عن الأهمِّ، وهذا غلَط.
ومن الناس مَن يَتَشاغَل بالفِقْه الشَّرْعيِّ ويَحرِص عليه، لكنه لا يَلتَفِت إلى أحوال الناس إطلاقًا، بل رُبَّما يُنكِر من الفِقه الشَّرعيِّ ما يَظُنُّ أنَّ الدليل لا يَدُلُّ عليه، وهذا أيضًا طرَف خَطَأ.
ومن الناس مَن يُحاوِل الجمع بين هذا وهذا، ونحن إذا سَبَرْنا سِيرة النّبيِّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وجَدْنا أنه عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفهَم الواقِع، ويَفهَم الناس، ويَفهَم الخيّر من الشِّرير، لكنه - صلى الله عليه وسلم - يَهتَمُّ بالأمر الثاني، الذي هو الفِقْه في الدِّين، ولهذا قال: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (¬١) لم يَقُل: يُفقِّهْه في الواقِع، فِقْه الواقِع وَسيلة للتَّطبيق فقَطْ، فلا بُدَّ لطالِب العِلْم من هذا ومن هذا، لا تَجنَح إلى طرَف الفِقْه في الواقِع، ولا تَغلُ في الفِقْه في الدِّين، فتُعرِض عن كل شيء، فالإنسان يَجِب أن يَكون وسَطًا.
فإن قال قائِل: لكن لو نظَرْنا إلى واقِعنا المُعاصِر الآنَ بعض وسائِل الإعلام تَدعو إلى الكُفْر والإلحاد والشِّرْك، وما أَشبَه ذلك، الواقِع الحَقُّ يَمنَع من ذلك، فكيف تَكون حِماية الشَّريعة؟
فالجوابُ: أنت انْوِ بذلك حِماية الشريعة، أمَّا كونُك تُطبِّق ذلك في المُجتَمَع، هذا ليس إليك، هذا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: ٥٦]، ومعلومٌ ما جرَى للإمامِ أحمدَ وغيرِه من الأئِمَّة من المِحَن، في
---------------
(¬١) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا، رقم (٧١)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم (١٠٣٧)، من حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -.

الصفحة 16