كتاب تفسير العثيمين: غافر

عنده شيئًا، فإذا رَكَّز الإنسان على العُلوم واختَصَرها بقَدْر ما يَستَطيع، صار هذا أَجوَدَ له، وأكثَرَ استِفادةً.
ويُذكَر أنَّ بعض الناس يَقول: إن مَن أَتقَن عِلْمًا من العلوم إتقانًا جيِّدًا استَغنَى به عن سائِر العُلوم، وهذا لا شَكَّ أنه غلَط، لو أنك أَدرَكْت النَّحْو جيِّدًا، لا يُغنِيك عن مَعرِفة الفِقْه. وما يُذكَر عن أبي يُوسُفَ والكِسائيِّ أنَّهما تَناظَرا في حَضْرة الرشيد، وقال الكِسائيُّ: إن الإنسان إذا أَتقَن العِلْم - أي عِلْم أَتقَنه - يَستَغنِي به عن غيره، وأنَّ أبا يُوسُفَ أَورَدَ عليه الرجُل يَسهو في سُجود السَّهْو، فقال الكِسائيُّ: ليس عليه سُجود. قال: ومن أَيْن يُوجَد هذا في عِلْمك. لأنَّ الكِسائيَّ إمامٌ في النَّحوِ، قال: من قَواعِد عِلْمي أن المُصغَّر لا يُصغَّر (¬١). هذا لا يَصِحُّ دليلًا في حُكْم شَرعيٍّ أبَدًا. وأنا أَظُنُّ أنَّ هذه القِصَّةَ مَصنوعة، ليسَتْ صَحيحة.
لكن الإنسان يَنبَغي له أن يُركِّز، وأنا في نظَري أن أَهَمَّ ما أُركِّز عليه هو القُرآن الكَريم، القُرآن كُنوز عَظيمة، كُلَّما أَخَذْت آية وصِرْت تَتَأمَّلها انفَتَح لك من العُلوم فيها ما لا يَعلَمه إلَّا الله، ثُم القُرآن سَنَد يَعنِي: ليس القُرآن ككِتاب أيِّ عالِم من العُلَماء، هو سَنَد يَحتَجُّ به الإنسان أمام الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه كَلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى؛ فلهذا أنا أَرَى أن نُركِّز على عِلْم التَّفسير، ثُم على مَعرِفة ما صَحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنتُمْ تَعرِفون أنَّ ما نُسِب للرسول - صلى الله عليه وسلم - يَحتاج إلى جُهْد قَبلَ أن يَكون دليلًا، الجُهْد هو أن نَعرِف صِحَّته إلى الرسول؛ لأنه ما أَكثَرَ الأحاديثَ التي رَواها ضِعَاف النَّاس رِوايةً! إمَّا لقِلَّة أمانَتِهم، أو لسُوء حِفْظهم، أو ما أَشبَه ذلك.
---------------
(¬١) ذكرها الجويني في نهاية المطلب (٢/ ٢٧٥)، وابن مفلح في النكت على المحرر (١/ ٨٢)، وانظر: الموافقات للشاطبي (١/ ١١٨).

الصفحة 19