كتاب تفسير العثيمين: غافر

كل إنسان يُؤمِن بما يُشاهِد، ولو كان أَكفَرَ الناس، وإنما الذي يُحمَد عليه الإنسان ويُنجِيه من عَذاب الله أن يُؤمِن بالغَيْب، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.
ثم قال الله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} {فَلَمْ يَكُ} أَصلُها: (لَمْ يَكُن)، لكِن حُذِفت النون تَخفيفًا، وقد جاء الحَذْف والإبقاء في آيَتَيْن من كِتاب الله، فقال تعالى في إبراهيمَ: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: ١٢٠]، وهذا الحَذْفُ تَخفيف، وله شروط مَعروفة في كتُب النَّحوِ.
{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} إيمان هل تُعرِبونها على أنها اسمُ (يَكُن) مُؤخَّر، أو على أنها فاعِل (يَنفَع) واسمُها مُستَتِر؟
الجَوابُ: الثاني، والتَّقدير على هذا: فلم يَكُ إيمانُهم يَنفَعهم. أمَّا على الأوَّل فيَكون (يَنفَع) {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ}، فيَكون اسمُها ضَميرَ الشَّأْن اسمَ {يَكُ} محَذوف.
وقوله: {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} {لَمَّا} هنا ظَرْف بمَعنى: حِين، واعلَمْ أن (لمَّا) تَأتِي في اللُّغة العرَبية على أَوجُه:
الأوَّلُ: أن تَكون ظرفًا بمَعنَى (حين) كما في هذه الآيةِ، فإن مَعنَى {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي: حينَ رأَوْا بَأْسَنا. وتَأتِي جازِمة، مثل قوله تعالى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}، وهي للنَّفْيِ أيضًا {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} جازِمة ونافِية، لكن الفَرْق بينها وبين (لَمْ) أن {لَمَّا} تُفيد قُرْب مَدخولها {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}، ولكن سيَذوقونه قريبًا، بخِلاف (لَمْ) فتَأتِي للنَّفي المُطلَق، وتَأتِي (لمَّا) شرْطية، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}، وتَأَتِي بمَعنَى: (إلَّا) كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}، وكذلك قوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} فهَذِه أَرْبعة مَعانٍ في (لمَّا).

الصفحة 554