كتاب تفسير العثيمين: غافر

ولو سُئِلْنا: أيُّهما أفضَلُ الجِهاد في سبيل الله أو طلَب العِلْم؟
قُلْنا: لا يُمكِن أن نُفضِّل أحدَهما على الآخَر على الإطلاق، فمِن الناس مَن نَقول له: طلَبُ العِلْم في حقِّك أفضَلُ. ومن الناس مَن نَقول: الجِهاد في حقِّكَ أفضَلُ؛ ولهذا تَجِدون أَجْوبة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التَّفاضُل بين الأعمال أنه يُخاطِب كل إنسان بما تَقتَضِيه حاله، وبهذا يَنفَكُّ الإشكال الذي يَرِد على النَّفْس؛ حيث يَقول الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في بعض الأحاديث: "أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَذا وَكَذا"، وفي بعضِها: "أَفْضَلُ الأَعْمالِ كَذا وكَذا"، فيُقال: إن هذا الاختِلافَ هو على حَسب حال المُخاطَب نَقول: بعض الناس طلَب العِلْم أَفضَلُ في حقِّهم، وبعض الناس الجِهاد في حَقِّهم أفضَلُ، فمَن كان وِعاءً للعِلْم حافِظًا فاهِمًا مُكابِدًا للعِلْم، فهذا طلَب العِلْم في حقه أَفضَلُ؛ لأنه يُنتِج أكثَرَ، وَينفَع المُسلِمين أكثَرَ، ومَن كان على غير هذه الحالِ قليلَ الحِفْظ، قليلَ الفَهْم ولكنه شُجاع قوِيٌّ بطَلٌ فهُنا الجِهاد في حَقِّه أفضَلُ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}.
وقبل البَدْء بالتَّفْسير نُقدِّم مُقدِّمة - نَسأَل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يَنفَع بها -، فنَقولُ:
إنَّ مِنْ نِعْمَة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العَبْد أن يُحبِّب إليه العِلْم، وذلك لأن العِلْم الشَّرْعيَّ مِفتاح كل خير؛ لقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقَهْهُ فِي الدِّينِ" (¬١) وهذه بُشْرى لكُلِّ مَن فقَّهَه الله في دِينه وعلَّمه، أنَّ الله أَراد به خيرًا، والفِقْه في الدِّين هو مَعرِفة الأحكام الشرعية من أدِلَّتها، ثُم تَطبيق هذه الأحكامِ التي عُلِّمها؛
---------------
(¬١) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا، رقم (٧١)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم (١٠٣٧)، من حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -.

الصفحة 8