كتاب تفسير العثيمين: الشورى

لأنَّ مقتضَى البيانِ ألا يكُونَ فيه شيءٌ إلا كان معلومًا للناسِ جميعًا أو لبعضِ الناسِ، أمَّا أن يوجد فيه ما ليس معلومًا لجميع الناسِ فهذا لا يمكنُ، وقد قال اللهُ تعالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: ٨٩]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤]، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: ١٨، ١٩]، وهذا يشملُ البيانَ اللفظيَّ والبيانَ المعنويَّ.
إذَن: أولًا: اعلم أنه لا يوجَدُ شيءٌ في القرآنِ لا يَفْهَمُ الناسُ معناه أبدًا، لا بُدَّ أن يفهموا معناه، فإذا وُجِدَ شيءٌ لا يُعْرَفُ معناه يعني ذلك أنه ليس له معنًى، هذه واحدةٌ.
ثانيًا: إذا طَبَّقْنا هذه الحروفَ على قولِ اللهِ تبَارَكَ وَتَعَالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٥]، وقولِهِ تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزُّخرف: ٣]، قلْنا: هذه الحروفُ في لغةِ العربِ ليس لها معنًى، إذن فمقتضَى كوْنِ القرآنِ باللسانِ العربيِّ المبينِ ألا يكونَ لهذه الحروفُ معنًى، لأنَّ هذه الحروفَ ليس لها معنًى في اللغةِ العربيةِ، وهذا هو الذي نَقَلَه ابْنُ كثيرٍ رَحَمَهُ اللَّهُ عن إمامِ المفسِّرِين في عهْدِه مجاهدِ بنِ جبرٍ رَحمَهُ اللَّهُ الذي أَخَذ تفسيرَ القرآنِ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ.
فقال: إن هذه الحروفَ الهجائيَّةَ ليس لها معنًى (¬١) نَجْزِمُ بذلك، لا تَخَرُّصًا ولكن استدلالًا بالقرآنِ، واستدلالًا بحالِ القرآنِ، استدلالًا بالقرآنِ، لأنَّه نَزَلَ باللغةِ العربيةِ وهذه الحروفُ الهجائيَّةُ ليس لها معنًى في اللغةِ العربيَّةِ، واستدلالًا بحالِ القرآنِ أنَّ القرآنَ ليس فيه شيءٌ لا يَعْرِفُ الناسُ معناه كُلَّهُ، لا بُدَّ أن يَكُونَ فيه شيءٌ معلومٌ.
---------------
(¬١) أخرجه الطبري في تفسيره (١/ ٢٠٩)، وانظر: تفسير ابن كثير (١/ ٧٠).

الصفحة 13