كتاب تفسير العثيمين: الشورى

إلى الذين من قبلِك، اللهُ فاعلُ الإيحاءِ] {كَذَلِكَ} تأتي في القرآنِ كثيرًا، وإعرابُها في جميعِ المواطنِ إلا يسيرًا أن تقول: الكافُ بمعنى (مثل) منصوبةٌ على أنها مفعولٌ مطلقٌ عاملُها ما يأتي بَعْدَهَا. حوّل الكافَ إلى مثلٍ تقولُ: مِثْلَ ذلك، والعاملُ فيها {يُوحِي} أي: يوحي إليك مثلَ ذلك الإيحاءِ اللهُ العزيزُ الحكيمُ.
وقولُهُ: {كَذَلِكَ} (ذلك) المشارُ إليه الوحيُ النازلُ على الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - يوحي إليك: الوحيُ في اللغةِ الإعلامُ بسرعةٍ وخفاءٍ، ويُطْلَقُ على الرمزِ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ١١]، ويُطْلَقُ على الإلهامِ؛ كما في قولِهِ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: ٦٨]، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: ٧].
أمَّا في الإصطلاخ: فالوحيُ إعلامُ اللهِ تعالى بالشرعِ لأنبيائِهِ ورسُلِه.
وقولُهُ: {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك} الواوُ حرفُ عطْفٍ {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} معطوفةٌ على {إِلَيْكَ} وإذا كانتْ معطوفةً على {إِلَيْكَ} كان تقديرُ الفعلِ: ويوحي إلى الذين من قَبْلِك. لكنْ لاحظوا أنَّ المُفسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ صَرَفَهَا فقال: [وأوحى إلى الذين من قَبْلِك]، فَقَدَّرَ فعلًا ماضيًا، مع أنها معطوفةٌ على معمولِ فعلٍ مضارعٍ؛ لأنَّ إيحاءَ اللهِ إلى رسولِهِ محمَّدٍ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم - مستمرٌّ، وإيحاؤه إلى من سَبَقَه ماضٍ منتهٍ؛ فلهذا قَدَّرَ المُفسِّر فعلًا ماضيًا.
ولكننا نقولُ: الأصلُ عدمُ التقديرِ؛ لأنَّ القرآنَ كاملٌ لا يحتاجُ إلى تقديرٍ إلا ما دعتِ الضَّرُورةُ إليه، ولا ضرورةَ هنا، ونقولُ: كذلك يوحي إليك ويوحي إلى الذين من قَبْلِك، ويكونُ ذِكْرُ الإيحاءِ لمن سَبَقَنَا من بابِ ذِكْرِ صورةِ الحالِ، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حين وحْيِهِ إلى من سبق، و {يُوحِي} فعلٌ مضارعٌ، فيكونُ هذا على حكايةِ الحالِ.

الصفحة 15