كتاب تفسير العثيمين: الشورى

فهو جَلَّ وَعَلَا حكيمٌ في شَرْعِه وحكيمٌ في صُنْعِه؛ يعني: في خَلْقِه، كُلُّ ما خَلَقَه اللهُ تعالى فالحكمةُ تقتضي وجودَه، وكلُّ ما أَعْدَمَهُ اللهُ تعالى فالحكمةُ تقتضي عَدَمَهُ، هذا أمرٌ مُسَلَّمٌ به، كلُّ ما شَرَعَه اللهُ إيجابًا، أو تحريمًا، أو تحليلًا، فالحكمةُ تقتضي شَرْعَه، كذلك الواجبُ تقتضي الحكمةُ إيجابَهُ، والمُحَرَّمُ تقتضي الحكمةُ تحريمَه، والمباحُ تقتضي الحكمةُ إباحَتَهُ، لكنْ لا يَلْزَمُ من وُجُودِ الحكمةِ في ذلك أن تكونَ معلومةً لنا، هناك حكمةٌ لكنْ قد نَعْلَمُها وقد لا نَعْلَمُها. وإذا حُجِبَ عنا عِلْمُهَا لا يعني العَدَمَ؛ لأننا قاصرون، إننا قاصرون بكلِّ شيءٍ، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: ٢٨]، في كلِّ شيءٍ ضعيفٌ؛ في قوتِهِ، في إدراكِهِ، في عِلْمِهِ، في كلِّ شيءٍ.
ولهذا لما قالوا: ما هي الرُّوحُ يا محمَّدُ؟ قال اللهُ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٨٥]، خَتَمَ الآيةَ بقولِهِ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} كأنه يقول: لم يَبَقْ عليكم من العلم إلا الروحُ حتى تسألوا عنها، بل الذي فاتَكُم من العِلْمِ أكثرُ من الذي أدركتُمُوه؛ ولهذا قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، ولذلك واجبُ المسْلمِ تجاه خَلْقِ اللهِ وتجاه شَرْعِ اللهِ أن يستسلمَ تمامًا، وأن يقول: هذا هو الحكمةُ.
أَضْرِبُ مثلًا في الشرائعِ: لماذا يأتي الناسُ بحصى حجراتٍ صغيرةٍ يضربون بها مكانًا معينًا؟ قد يقولُ قائلٌ: ما الحكمةُ من هذا؟
فنقول: مجرَّدُ كوْنِ اللهِ شَرَعَ ذلك دليلٌ على الحكمةِ، ونكتفي بهذا. مع أن من أعظمِ الحِكَمِ فيه كمالُ التعبُّدِ أن يأتيَ الإنسانُ بحجرٍ يَضْرِبُ بها مكانًا لمجرد امتثالِ أمْرِ اللهِ، ففيه كمالُ التعبُّدِ؛ لأنَّ انقيادَ النفسِ لما تَعْلَمُ فائدتَهُ أسهلُ من انقيادِها لما لا تَعْلَمُ فائدتَهُ، وانقيادُها لما لا تَعْلَمُ فائدتَه أَبْلَغُ في التذلُّلِ والتعبُّدِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ مع أن

الصفحة 18