كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

[كيفية معرفة الأصلح في الولاية]
وأهم ما فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرِفَةُ الْأَصْلَحِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بِمَعْرِفَةِ مَقْصُودِ الْوِلَايَةِ، وَمَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْمَقْصُودِ؛ فَإِذَا عَرَفْت الْمَقَاصِدَ وَالْوَسَائِلَ تَمَّ الْأَمْرُ. فَلِهَذَا لَمَّا غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُلُوكِ قَصْدُ الدُّنْيَا، دُونَ الدِّينِ؛ قَدَّمُوا فِي وِلَايَتِهِمْ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَكَانَ مَنْ يَطْلُبُ رِئَاسَةَ نَفْسِهِ، يُؤْثِرُ تَقْدِيمَ مَنْ يُقِيمُ رِئَاسَتَهُ؛ وَقَدْ كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيَخْطُبُ بِهِمْ: هُمْ أُمَرَاءُ الْحَرْبِ، الَّذِينَ هم نواب ذي السلطان على الأجناد؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ، قَدَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى حَرْبٍ، كَانَ هُوَ الَّذِي يُؤَمِّرُهُ لِلصَّلَاةِ بِأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا نَائِبًا عَلَى مَدِينَةٍ، كما استعمل عتاب ابن أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الطَّائِفِ، وَعَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ، وعمرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ: كَانَ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ، وَيُقِيمُ فِيهِمْ الْحُدُودَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَفْعَلُهُ أَمِيرُ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ الْأُمَوِيِّينَ وَبَعْضِ الْعَبَّاسِيِّينَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ أَمْرِ الدِّينِ الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ، «وَكَانَ إذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك، يَشْهَدُ لَك صَلَاةً، وَيَنْكَأُ لَك عَدُوًّا» . «وَلَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، قَالَ: يَا مُعَاذُ إنَّ أَهَمَّ أَمْرِك

الصفحة 20