كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية
فَإِنَّ الرَّجُلَ لِحُبِّهِ لِوَلَدِهِ، أَوْ لِعَتِيقِهِ، قَدْ يُؤْثِرُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ، أَوْ يُعْطِيهِ مَا لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته؛ وكذلك قَدْ يُؤْثِرُهُ زِيَادَةً فِي مَالِهِ أَوْ حِفْظِهِ؛ بِأَخْذِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، أَوْ مُحَابَاةَ مَنْ يُدَاهِنُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَخَانَ أَمَانَتَهُ. ثُمَّ إنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْأَمَانَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ هَوَاهُ، يُثَبِّتُهُ اللَّهُ فَيَحْفَظُهُ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بَعْدَهُ، وَالْمُطِيعُ لِهَوَاهُ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَيُذِلُّ أَهْلَهُ، وَيُذْهِبُ مَالَهُ. وَفِي ذَلِكَ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ: أَنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، سَأَلَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَمَّا أَدْرَكَ، فَقَالَ: أَدْرَكْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيز، قيل لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْفَرْت أَفْوَاهَ بَنِيك مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَتَرَكْتَهُمْ فُقَرَاءَ لَا شَيْءَ لَهُمْ -وَكَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ- فَقَالَ: أَدْخِلُوهُمْ علي، فأدخلوهم: وهم بِضْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، لَيْسَ فِيهِمْ بَالِغٌ، فَلَمَّا رآهم ذرفت عيناه، ثم قال لهم: يَا بَنِيَّ وَاَللَّهِ مَا مَنَعْتُكُمْ حَقًّا هُوَ لَكُمْ، وَلَمْ أَكُنْ بِاَلَّذِي آخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ فَأَدْفَعُهَا إلَيْكُمْ؛ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا صَالِحٌ، فَاَللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ؛ وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ، فلا أخلف لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، قوموا عني. قال: فلقد رأيت بعض بنيه، حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَعْنِي أَعْطَاهَا لِمَنْ يَغْزُو عَلَيْهَا. قُلْت: هَذَا وَقَدْ كَانَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ: بِلَادِ التُّرْكِ، إلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ: بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ جَزَائِرِ قُبْرُصَ وَثُغُورِ الشَّامِ وَالْعَوَاصِمِ كَطَرَسُوسَ وَنَحْوِهَا، إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ. وَإِنَّمَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْئًا يَسِيرًا، يُقَالُ: أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا- قَالَ وَحَضَرْتُ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ وَقَدْ اقْتَسَمَ تَرِكَتَهُ بَنُوهُ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ
الصفحة 9