كتاب مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها

العبادة تشمل كل نشاط الحياة:
من أهم خواص منهج التربية أنه منهج عبادة لله، إن العبادة هي العبودية لله وحده، والتلقي من الله وحده، في كل أمور الدنيا والآخرة.. إنها الصلة الدائمة بالله في جميع الأحوال.
والعبادة -على هذا النحو- تتمثل في أمرين:
الأمر الأول: هو الاعتراف بوجود الله الواحد الأحد، الذي لا شيء غيره معه، وليس كمثله شيء، ولا حقيقة لوجود إلا وجوده، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته، ولا أثر لإرادة إلا إرادته، ولا توجه حقيقي في الرغبة والرهبة، في السراء والضراء، في النعماء والبأساء إلا إليه.
الأمر الثاني: هو الأخذ بالسنن الإلهية، التي يسير الكون بموجبها، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفته في الأرض ليعمرها، ويرقى الحياة على ظهرها، ومقتضى العبادة أن يأخذ المؤمن بالأسباب التي تعينه على عمارة الأرض واستغلال ما أودع فيها من كنوز وثروات وطاقات1، على أن يستقر في عقله وقلبه في جميع الأحوال نفي فاعلية الأسباب الظاهرة، ورد كل شيء وكل حدث، وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت، وبه تأثرت، وقد عنى القرآن عناية كبيرة بتقرير هذه الحقيقة في التصور الإيماني، ولذلك فهو دائما ينحي الظاهرة، ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال: 10] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} [التكوير: 29] ، وهكذا.
والإسلام يوسع مفهوم العبادة لتشمل كل الحياة، ليس حياة الإنسان فقط، بل حياة كل المخلوقات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
والإسلام بهذا المفهوم للعبادة لا يقصر العبادة التي يقوم بها الإنسان على لحظات المناسك القصيرة للصلاة والصيام والزكاة والحج، فهذه ليست إلا لحظات قصيرة عابرة في صفحة النفس وفي صفحة الكون، وقيمتها تكمن في آثارها على السلوك النفسي في كل وقت على طول الحياة، لكن "الإسلام يوسع مفهوم العبادة حتى تشمل كل الحياة، فكل عمل يتوجه به الإنسان إلى الله فهو عبادة، وكل عمل
__________
1 سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، ص589-591.

الصفحة 26