كتاب مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها

تقوم عبادة الإنسان لله على أساس من حرية الاختيار والإرادة الواعية، فإن هذه هي أسمى وأعمق درجات إفراد الله بالعبودية، كما أنها أسمى وأعمق درجات الحرية والإنسانية.
هنا نصل إلى القاعدة الثانية التي تقوم عليها حرية الإنسان المسلم وهي: المسئولية، فالإنسان الذي اصطفاه ربه -دون سائر مخلوقاته- بالحرية، والإرادة الطليقة والقدرة على الاختيار، ذلك الإنسان هو المخلوق الوحيد الخليق بأن تناط به مسئولية فهم منهج الله وتنفيذه في واقع الأرض، فالحر هو الوحيد الذي يمكن أن يكون مسئولا، والحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، واصطفاه الله للإنسان كي تناط به مسئولية حمل أمانة فهم وتنفيذ منهجه في الأرض، هو منتهى التكريم للإنسان:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] .
إن السموات والأرض والجبال وما بينهما من خلائق، تعرف ربها بلا محاولة، وتهتدي إلى سنته وناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها، وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبير ولا واسطة، وتؤدي وظيفتها غير شاعرة ولا مختارة، فالشمس تدور في فلكها بطريقة لا تختل جزاء من ثانية، وتؤدي وظيفتها ودورها الكوني -كما قدر لها- أداء كاملا، والأرض تدور دورتها، تخرج زرعها وتفجر ينابيعها، وتجري المياه في بحارها وأنهارها وفق سنة الله بلا إرادة منها، وكذلك القمر والنجوم والكواكب والجبال والوهاد.. كلها تمضي لشأنها بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة.
لقد أشفقت هذه الخلائق من أمانة التبعة، وأمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية والمحاولة الخاصة، وهناك من يقول: إن المقصود بالأمانة هنا هي فهم منهج الله وتنفيذه في واقع الأرض، ولا أرى تعارضا بين التفسيرين، حيث إن معرفة الإنسان لربه بإدراكه وشعوره، والاهتداء إلى ناموسه وسنته بالتدبر والتبصر. كل هذا يقتضي العمل وفق هذا الناموس في عمارة الأرض، أي: إن المعرفة الإنسانية، والتربية والتعليم والتعلم من تصميم وتنفيذ المناهج المختلفة، كل هذا يهدف إلى الوصول إلى غاية كبرى، هي فهم منهج الله وتنفيذ مقتضياته في واقع الأرض.
لقد ظلم الإنسان نفسه حين حمل الأمانة وهو على ما هو عليه من الضعف، وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصور العلم، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان.

الصفحة 53