كتاب أسرار ترتيب القرآن

قلت: لما لم يقع الجواب عن الأول بالبيان1، ناسب فصله في سورة.
ثم ظهر لي وجه آخر: وهو أنه لما قال فيها: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} "الإسراء: 85"، والخطاب لليهود، واستظهر على ذلك بقصة موسى في بني إسرائيل مع الخضر، التى كان سببها ذكر العلم والأعلم2، وما دلت عليه من إحاطة3 معلومات الله عز وجل التي لا تحصى، فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحِكَم4.
وقد ورد في الحديث أنه لما نزل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} قال اليهود: قد أوتينا التوراة، فيها علم كل شيء؛ فنزل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} "109" في هذه السورة5، فهذا وجه آخر في المناسبة، وتكون السورة من هذه الجهة جوابًا عن شبهة الخصوم فيما قدر بتلك.
وأيضًا فلما قال هناك: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} "الإسراء: 104" شرح ذلك هنا وبسطه بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} إلى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} "98-100"، فهذه وجوه عديدة في الاتصال6.
__________
1 لم يقع الجواب بالبيان؛ وإنما وقع بإسناد علم الروح إلى الله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} "الإسراء: 85".
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 255" وفيه: "أوتينا علمًا كثيرًا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا".
3 في "ظ": "كثرة".
4 في "ظ": "في تلك السورة".
5 وفي رواية لابن جرير في التفسير "15/ 104" فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} "لقمان: 27" الآية، وانظر: أسباب النزول، للنيسابوري "172"، والسيوطي "179".
6 نظم الدرر "4/ 441" وما بعدها.

الصفحة 106