كتاب أسرار ترتيب القرآن

سورة المائدة:
وقد تقدَّم وجه في مناسبتها.
وأقول: هذه السورة أيضًا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة؛ فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة1، وكذا ما حرمه2 الكفار تبعًا لآبائهم في البقرة موجز3، وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ ... } "103، 104".
وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى4، وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
__________
1 قال تعالى هنا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} "3-5"، أما في البقرة فلم يكن هذا التفصيل؛ إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} "البقرة: 172، 173".
2 في المطبوعة: "أخرجه" تحريف، والمثبت من "ظ".
3 في البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} "البقرة: 168".
4 من دلائل الترتيب أنه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} "البقرة: 178"، ثم زاد بيانًا في نفس السورة، فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} "البقرة: 179"، ثم قال: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص} "البقرة: 194"، ثم ذكر قتل الخطأ والنسيان في النساء فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} "النساء: 92"، وزاد تفصيل القصاص فيما ساقه المؤلف في الآية "22" المائدة، ثم فصل أحكام القصاص في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} "المائدة: 45"، وهذا تدرج بديع ويدل على إحكام الترتيب والتلاحم.

الصفحة 75