كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وتخفى، أو جذوة ملتهبة توقد وتطفى، والرعد يهدر بزواجر زماجره السحائب فيبكيها، والطير يتلو سطور الندى في طروس الثرى فيمليها ... ".
ونلحظ على هذه القطعة أنه يتعمد ألوانًا خاصة من البديع كالطباق في ظلها وويلها، وخيلها ورجلها، وتليده وطارفه، والجناس غير التام في عساكر البرد والبرد هاجمة، إلخ، ويكثر من الاستعارات تأتي قوية أحيانًا، ومتكلفة أحيانًا، وتطور السجعات آونة حتى تأتي الكلمة المكملة المسجعة كقوله: "كأنه وعليه ثوب الغيم مزرور، وقد وجل من صولة البرد، فلبس فروة السمور"، ويعمد إلى الصورة القديمة الموروثة فالغمام ينيخ بكلاكله، والبرق يهز بيض مناصله، أما قربه حتى كاد يمسك باليدين فقديمًا قال عبيد بن الأبرص في وصف الغمام:
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يمسكه من قام بالراح
وأما أن البرق قد نشر طرائق طرائفه في الجو، فهو مأخوذ كذلك من قول عبيد في نفس القصيدة:
كأن ما بين أعلاه وأسفله ... ربط منشرة أو ضوء مصباح
وإن دل هذا النثر على شيء، فهو يدل على أنه قد حل محل الشعر في الوصف، وكثرة الأخيلة وضروب المجازات، وأن صاحبه واسع الإطلاع على الأدب القديم، قدير على إيراد السجعات، ومختلف ألوان البديع والاستعارات، وذلك لا ريب مقبول في النثر الأدبي كهذه الرسالة ما لم يأت متكلفًا، على ان عبد الله فكري يكون في أحسن حالاته حين يتوخى الفقرات القصيرة الفواصل، فنشعر أن سجعه طبيعي وأن له رنة مستساغة في الآذان كقوله من رسالة يرد بها على صديق: "سيدي سلمك الله وحياك، وأسعدني برؤية محياك، وزاد عزك وعلياك، وحرص دينك ودنياك، وجمعني على بساط المسرة وإياك، ولا حرمني دوام لقياك، ولا برح الدهر مبتسم الثغر بمحاسن معاليك، ومباهيا اعصار الأوائل بأيامك ولياليك، محليًا أجياد المفاخر بزواهر لآليك - ورد على كتابك الكريم، مورد الإعزاز والتكريم ... إلخ".

الصفحة 102