كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

وقد تكلم عنها شوقي ثلاث مرات، كل مرة في موضوع مستقل، جرى في المرة الأولى في وصف مظاهرها، وأبدى سخطه عليها، وفي المرة الثانية حاول أن يستشف سرها، ويدرك كنهها فيقول: "أحق أنها هي الدم حتى يجمد، وأنها الحرارة حتى تبرد، وأنها هي الحركة حتى يقطعها السكون، وأنها هي الجاران حتى تفرق بينهما المنون؟؟
الحق أن افتئات الفلسفة، على ضنائن الله سفه، وأن علم الحياة عند الذي يهبها ويستردها، والذي يقصرها ويمدها، والذي يخلعها ويستجدها، والذي كل حي سواه يموت، وكل شيء ما خلاه يفوت".
وهذه هي عقيدة المسلم الصادق، وقديمًا تساءل المسلون عن كنه الروح، فقال لهم الله في كتابه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، ونرى شوقي يحاول أن يفيد من المتنبي حين قال: إنها الجاران حتى تفرق بينهما المنون، متأثرًا بقول المتنبي: "ومفترق جاران دارهما العمر".
ومعظم موضوعات تأملاته مما حار الناس فيها قديمًا وحديثًا، وكأني بنفسه الطلعة تريد أن تهتك عنها الحجاب، وتطلع على أسرارها، ثم تعجز ولا تملك إلا أن تبدي خواطرها إزاء ما أعياها إدراك كنهه، فاليوم والأمس، والغد، ومنها تتكون الحياة، موضوع شائق للبحث الفلسفي، وقد تناوله شوقي بمزيج من الشعر والفلسفة، في عبارة مركزة موجزة، فيقول عن أمس: "أمس ما أمس؟ خطوة إلى الرمس!، خرزة هوت عن السلك أغلى من خرزات الملك، صحيفة طويت والصحف قلائل من كتاب العمل الزائل، ثلمة في الجدار، وهت لها الدار وأنت غير دار، جزء من عمرك حضرت وفاته، وقبرت بيديك رفاته لم ترق عليه عبرة، ولم تشيعه بالتفاتة.
وهو القاعدة التي يبنى عليها العمر، والحب الذي بنيت عليه الشجر، ويخرج منه الثمر، وهو الخير والأثر، والكبت والسير، والأسى والعبر، وهو أبو يومك، والولد سر أبيه، وجد غدك فاجعله النبيل في الجدود النبيه".

الصفحة 128