كتاب نشأة النثر الحديث وتطوره

من قواد العسكرية أيام محمد علي وإبراهيم، وأنه يسكن في البيت الفلاني وعليه أن يذهب لإحضار ثيابه، في حوار طريف جذاب، ثم يورد ما أصاب هذا الباشا الذي ظهر في غير زمنه من كوارث ومحن وتجارب، ودهشة وعجب من كل ما لاقاه في مصر، ولنستمع إليه لنرى كيف ابتدأ الكتاب، قبل أن نورد موضوعاته، ونلم بملاحظاته وتهكماته، قال:
"حدثنا عيسى بن هشام -قال: رأيت في المنام كأني في صحراء الإمام أمشي بين القبور والرجام، في ليلة زهراء قمرية يستر بياضها نجوم الخضراء، فيكاد في سنا نوره ينظم الدر ثاقبه، ويرقب الذر راقبه، وكنت أحدث نفسي بين تلك القبور، وفوق هاتيك الصخور بغرور الإنسان وكبره، وشموخه بمجده وفخره، وإغراقه في دعواه وإسرافه في هواه، واستعظامه لنفسه، ونسيانه لرمسه، فقد شمخ المغرور بأنفه، حتى رام أن يثقب به الفلك استكبارًا لما جمع، واستعلاء بما ملك، فأرغمه الموت، فسد بذلك الأنف شقا في لحده بعد أن وارى تحت صفائحه صحائف غعزه ومجده.
وما زلت أسير وأتفكر، وأجول، وأتدبر حتى تذكرت في خطاي فوق رمال الصحراء، قول الشاعر الحكيم أبي العلاء:
خفف الوطأ ما أظن أديم ال ... أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم ال ... عهد هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويدًا ... اختيالًا على رفات العباد
فقرعت سن الندم، وخففت وطأ القدم، وإن في دهماء أولئك الأموات، وغمار تلك الرمم والرفات، لمباسم طالما حول العاشق قبلته لقبلتها، وباع عذوبة الكوثر بعذوبتها، قد امتزجت بغبار الغبراء، واختلطت ثناياها بالحصى والحصباء، وتذكرت أن تلك الخدود".
ويمضي المويلحي فيعدد محاسن النساء الجسمية، وكيف كانت، وكيف صارت بعد الموت، فيذكر العيون والشعر والنهود والشفاه وغيرها، إلى أن يقول:
"وبينما أن في هذه المواعظ والعبر، وتلك الخواطر والفكر، أتأمل في عجائب الحدثان، وأعجب من تقلب الأزمان مستغرقًا من بدائع المقدور مستهديًا

الصفحة 133